من السهولة بمكان أن يدّعي كل أحد كونه من الوسطيين والمعتدلين والمتسامحين، ولكن هذا الزعم حال الرخاء يمكن أن يمرر على غير أولي الألباب، ولكن حينما يأتي حال الشدة فتظهر الحقائق لذي عينين. وخلال الثورات الشعبية الحالية في البلاد العربية، رأينا كيف اصطفت الجموع بكل أديانها ومذاهبها وقومياتها وأطيافها تحت راية وطنية، وبآليات سلمية، وبكل استقلالية، وبلا أي أجندات فئوية، فضلاً عن ارتباطات خارجية، وذلك بدءًا من تونس، ومرورًا بمصر، وكذلك ليبيا بقبائلها، واليمن بطوائفها وعشائرها، حيث اختلط في ساحة صنعاء الشافعي السنّي مع أخيه الزيدي الشيعي، وبلا فروقات، أو أجندات عابرة للحدود، ولذا كتب لهذه الثورات النجاح. ولكن في حالة البحرين اختلف المشهد، حيث بدأت وطنية وسلمية، ودون مظاهر طائفية أو عنفية، وما هي إلاّ أيام حتى سقطت الأقنعة، وانكشفت الحقائق، فإذا بالثورة تتشكل طائفية شيعية خالصة، وفي مقابلها كتلة سنيّة في مكان آخر تعلن معارضتها للمعارضة الطائفية، ولم يكتفِ المشهد بالافتراق الطائفي الداخلي، وإنّما ظهر -وبشكل واضح- العلاقة بالخارج، وخصوصًا بالنظام الإيراني، وبولاية الفقيه على وجه أخص، وبالتالي اختلفت المقومات عن جميع الثورات الأخرى، ونتيجة لذلك فليس من المستغرب أن تفشل هذه الثورة التي تعاطفنا معها في بدايتها؛ لكونها كأخواتها في البلاد العربية، فليس اللوم على مَن وقفوا أمامها، ولكن العتب على مَن خطفوها، ومن ثم جاؤوا يرمون الآخرين بأنهم طائفيون، ولسان حالهم يقول: إمّا أن تقبل بأن أكون طائفيًّا ومتعلّقًا بأجندات خارجية، وإلاَّ فأنت الطائفي!. ولم تقف الثورة البحرينية عند هذا الحد من الفحش الطائفي والعلاقة بالأجنبي، وإنما تحوّلت إلى تصدير الفتنة الطائفية إلى خارج حدود البحرين، حيث السعودية والكويت، وما رأيناه من شحن طائفي عبر قنوات فارسية ضد السنّة من الخليج إلى المحيط، مع تدخل فارسي صارخ في شؤون الغير، حتى بلغت البلطجة العابرة للبحار جميع العرب، فاصطفوا على رأي واحد ضد هذه القومية المتدثرة بلباس الطائفية؛ لتدق إسفين الفتنة بين السنّي العربي وأخيه الشيعي العربي. وتفاجأنا باصطفافات لا يمكن تبريرها، بحيث لم نسمع صوتًا عادلاً عاقلاً في هذه الأزمة، مع توفر كل وسائل التعبير عبر الفضائيات التعبوية، ومواقع الإنترنت الطائفية، ولم نجد سوى الصمت الرهيب عن إبداء المواقف الحكيمة، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والأسوأ منه الخروج من الصمت، ولكن إلى المزيد من خطأ تغذيه روح الطائفية وخطيئة التعلّق بالأجنبي، وشملت الشتائم دول الخليج حكومات وشعوبًا، فرأينا الكثير من تلك القنوات الفضائية وهي تسب السنّة وترميهم بألقاب سيئة. ولم نجد الصوت الشجاع الذي يخرج في وقته ليقول للمصيب أصبت، وللمخطئ أخطأت، ويقول بأن هذا أخطأ؛ لأنه تجاوز الحدود، وبث الفتنة الطائفية، وارتبط بأجندات خارجية، وكذلك يقول بأن ذاك قمع وظلم، ولم نرصد إلاَّ أسماء يسيرة، ولكنها الشخصيات العربية الأصيلة وغير المرتبطة بأجندات عابرة للوطنية والقومية العربية والأخوة الإسلامية، نحو قومية لا تقبل حتى مجرد اسم عربي للخليج، فكيف بالعرب أنفسهم، وطائفية نائمة لعن الله من أيقظها. ومن هؤلاء الرجال الأفذاذ سماحة العلّامة المجتهد السيد علي الأمين في لبنان، حيث شاهدت لقاءً معه في قناة المستقلة عبر اليوتيوب، فقرأ المشهد بأمانة، وعرضه بإخلاص، وبروح المؤمن الصادق الباحث عن توحيد الأمة والعدل فيها، ومراعاة العقد الاجتماعي والمكاسب الوطنية، وقد ذكرتني وسطيته بسماحة المرجع العربي الراحل السيد فضل الله، والباحث العربي الراحل الشيخ شمس الدين، والذين نهلنا من مؤلفاتهم الوسطية المعتدلة ومن مواقفهم الأخوة الحقيقية، والممارسات الفعلية لما يدعون إليه من أخوة ومحبة بين المسلمين بكل طوائفهم، ونحن في هذا الوقت بالذات أحوج ما نكون إلى أمثال هؤلاء المعتدلين العقلاء، الذين دفعوا ثمن استقلالهم وحريتهم الحقيقية، وقالوا الحق وتحمّلوا الأجر عند الله. وفي ظل هذه التجليات عن الولاءات الضيقة خلال هذه الفترة العصيبة، فإنه من الواجب استذكار صدق كل رجل ودعوته، وتحقيق نظرياته المثالية المدونة في كتبه، والمشاهدة في محاضراته، ولكن البعض منهم قد تلاشت دعواتهم عند أول امتحان، وبالتالي فالوسطية ليست مزاعم، وإنما مواقف، وليست في حال الرخاء، وإنما في حال الشدة، ولا خيار إلاّ بوحدة وتضامن بين الوسطيين المعتدلين الحقيقيين في الفئتين وبكل شجاعة، نحو تطبيق تلك الدعاوى التي أشبعتنا مقروءة ومسموعة ومشاهدة خلال السنوات الماضية، ثم انكشفت الحقائق عند أول تمحيص. ومن مواقف سماحته الشجاعة، مطالبته بتحصين بلده لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية من خلال تقوية الجيش الوطني، وإيجاد صيغة لإخراج السلاح من الساحة الداخلية، وجعله مرتبطًا بمنظومة الدولة اللبنانية، وتصريحه لصحيفة الوطن البحرينية بأن نتائج التفاهم والائتلاف أكبر من التنازع والاختلاف بين المسلمين، وتصريحه لمجلة المسيرة بأن الضمانة الوحيدة للشيعة ولكل الطوائف هي مدى انخراطهم في مشروع الدولة الوطنية، ولسماحته عبر موقعه الإلكتروني جهود مشهودة في التقارب الحقيقي والنزيه بين طوائف المسلمين، والذي تشعر به من لحن صوته الصادق غير الموارب ولا المتكلّف، وبسماحته وأمثاله من المعتدلين المخلصين المستقلين تتحقق الوحدة والأخوة والمحبة بين المسلمين.