-1- نتابع اليوم ما كانت الأحداث العربية قد قطعته، واضطرتنا اضطراراً لمتابعتها والكتابة عنها كشهود عليها. فأهمية المثقف في شهادته على عصره. فما زلنا مهتمين أشد الاهتمام بمسألة "إخوان بريدة". ولعل مردَّ هذا الاهتمام الكبير، يعود إلى أسباب كثيرة منها، أن مجموعة من "إخوان بريدة"، قد خرجوا من هذا التجمع، أو من هذه الحركة، وبدأوا يكتشفون العالم من جديد. ولو استمعنا إليهم، أو قرأنا ما يقولون وما يكتبون، لبلغ بنا الأمر حد الإيمان العميق بأن المستقبل القريب لليبرالية لا محالة، وأن السلفية الدينية المتشددة سائرة إلى نفق مظلم مغلق في نهايته، حيث لا منفذ له. -2- ومجموعة الشباب من "إخوان بريدة" الذين خرجوا من هذا النفق أدركتهم الحقيقة، وأدركهم العقل، وأدركهم التنوير الذي هو بكل بساطة، وبدون لت وعجن التحرر من القيود التاريخية ومن الرهانات القائمة. وأن الإنسان سيّد وجوده لنفسه، ولا إملاءات عليه من خارج سلطان عقله. وكما قال كانط في كتابه " الدين في حدود العقل وحده" عام 1793، فإن التنوير خروج الإنسان من القصور الذي فرضه على نفسه. والقصور هذا هو عدم قدرة المرء على استعمال عقله دون هداية الآخرين. وهذا القصور ليس نتيجة نقص في العقل، بل نتيجة نقص في القدرة على الاختيار، ونقص في الشجاعة لاستخدام العقل دون هداية آخرين من الناس. وكأن كانط كان يتوقع لنا هذا المصير، بعد مضي أكثر من مائتي سنة على قوله هذا. فحال معظم المسلمين اليوم هو حال القصور الطفولي، ليس نتيجة نقص في العقل ولكن نتيجة نقص القدرة على الاختيار، ونقص في الشجاعة لاستخدام العقل، بعيداً عن فتيا المفتين والفقهاء من الكبار والصغار. وهذا تماماً ما يمرُّ به معظم المسلمين اليوم، وما يتطاول به ويكبر صغار وكبار "الفقهاء" الذين أصبحوا أوصياء على الناس وصاية الآباء على أطفالهم. وأصبحت "العامة" التي وُصفت دائماً، بأن لا عقل لها، كما قال نيتشه، أسيرة هؤلاء السجَّانين من الفقهاء، الذين اعتقلوا العقل العربي، بل وقتلوه، وأصبحوا هم هذا العقل وحدهم، الذي يكون في كثير من الأحيان قريباً من الاختلال، وذلك من خلال الفتيا المضحكة والمثيرة للسخرية والتندر التي يفتونها يميناً وشمالاً، في الصغائر والكبائر، وعلى الطرقات وفي المنابر. -3- ولو استعملت العامة عقلها استعمالاً صائباً في تفسير الأحكام الشرعية، وفي قراءة آيات القرآن الكريم، لأصبحوا من أولي الألباب، والراسخين في العلم، وأهل الذكر، وحلّوا محل فقهاء الاجترار، ولم يعودوا بحاجة إلى فتياهم. ومن هنا تأتي أهمية الشباب الذين خرجوا من "إخوان بريدة" إلى العالم الأوسع. إننا بحاجة إلى تحويل العامة من حزمة دهماء لعواطف غريزية إلى حزمة عقول مفكرة. وهذا لصالح الإسلام بالدرجة الأولى والأخيرة، وحتى لا يُختطف الدين مرات أخرى، ويصبح بالتالي غير قادر على الصمود أمام العقل. يقول كانط: " إنّ ديناً يُعلن الحرب على العقل، سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه. " -4- لم نفرح لتمرد هؤلاء الشباب (منصور النقيدان، مشاري الذايدي، عبد الله بن بجاد العتيبي، ويوسف أبا الخيل وغيرهم، ممن لا نعرفهم) على الأفكار الحجرية، والكتب الخشبية المتآكلة، والنصوص المتكلسة بمرور الزمن، وقلة الحركة والتزحزح، وسوء التأويل، وضحالة التفسير الحرفي، وانعدام الرأي الآخر، فكانت هذه الأفكار، وتلك الكتب والنصوص كالصخرة الصمّاء الضخمة في مجرى النهر. فلا هي شربت الماء، ولا هي سمحت لماء النهر بالتدفق. نعم، لم نفرح لتمرد هؤلاء الشباب لأجل التمرد، ولا لعصيانهم لتعاليم "المؤدبين" لمجرد العصيان، ولا لرفضهم للاستمرار في مسيرة الصحراء القاتلة، حيث لا ضرع ولا زرع ، ولكننا فرحنا لهؤلاء الشباب لأن رؤيتنا صدقت أن "دين العقل" هو الغالب في النهاية، وأنهم مزجوا بين الإيمان الروحي والعقل التحليلي. وهذا المزج ليس جديداً في مسيرات التنوير، فقد ظهر واضحاً لدى أبرز ثلاثة من فلاسفة التنوير في ألمانيا خاصة، وهم : كانط (1724- 1804) في كتابه "الدين في حدود العقل وحده" الذي ظهر 1793 ، وليسنغ (1729- 1781) في كتابه "تربية الجنس البشري" ، والثالث يوهان هردر (1744-1803) في كتابه (أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية). -5- لقد اقتنع هؤلاء الشباب القصيميون المهاجرون من الظلمات إلى النور، أن شمس المعرفة لا بُدَّ لها أن تنشر ضياءها على بريدة وإخوانها، حيث معقل التشدد الديني السعودي، وحيث يتجه صائدو الطرائد الدينية إليها، لتوفر الطرائد، وسهولة صيدها. وهو ما وجده صائد الطرائد الدينية، الداعية السوري والإخواني السابق محمد سرور زين العابدين، زعيم "الحركة السرورية" السلفية المتشددة في بريدة التي تجمع بين أفكار ابن تيمية وسيد قطب، ومؤلف كتاب "السلفية بين حزب الولاة والغلاة"، وأكثر من عشرة كتب أخرى على هذه الشاكلة، ويعيش الآن في بريطانيا. كذلك فقد كانت بريدة ومنطقة القصيم عموماً، مرتعاً وافر العشب الديني للقطبيين (أغنام سيّد ومحمد قطب) المتشددين. ورغم أن مجموعة كبيرة من الليبراليين البارزين قد خرجت من القصيم، ومعظمنا يعرفهم وقرأ لهم، إلا أن القصيم ظلت منطقة من أكثر مناطق السعودية احتفاء وقبولاً للتشدد الديني. ويقول محمد فؤاد في بحثه (الدين والدولة في السعودية) أن الخط السلفي الاحتجاجي يتمركز في منطقة القصيم ذات الثقل النوعي والعمق الاستراتيجي لعناصر هذا الخط. ويُعدُّ الشيخ الراحل محمد بن عثيمين (1929-2000) (له أكثر من 85 مؤلفاً في الفتاوى والرسائل الدينية. وهو من أفتى بقتل النساء والأطفال من "الكفار" في أرضهم. عضو "هيئة كبار العلماء" السعودية) المرشد الروحي لهذا الخط، الذي يجمع حوله كثيراً من الجماعات السلفية المتطرفة. وأن أكثر الفتاوى الدينية تطرفاً وعداء لروح العصر والحداثة، خرجت من منطقة القصيم أو من يعيشون خارجها، ولكنهم من مواليدها وشبابها. (وللموضوع صلة).