إذن وحسب البيان الذي وقعه مجموعة من (المشايخ) و(طلبة العلم) فإن من أسباب ما حدث في مدينة جدة من سيول أخذت معها العشرات من الضحايا هو كثرة الذنوب والمعاصي، وبحسب (المشايخ) فقد تضمن البيان مجموعة من المطالبات كان منها ما نصه: منع المظاهر العامة للمنكرات وتعزيز دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بالمناشط الدعوية النافعة، فإن الذنوب والمعاصي من أكبر أسباب نزول البلاء قديما وحديثا، قال تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"، وقال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب" وكما هو واضح فإن استخدام الأدلة تغلب عليه عمومية الاستدلال التي هي من أبرز صفات الذهنية الفقهية التقليدية، وحتى لا يقال ما بالنا اتجهنا إلى هذا المطلب دون غيره، فإنه يمكن لفت النظر إلى أن بقية المطالب وكما هو واضح في البيان كانت مجرد بحث عن تلك الحجة، وكان الغرض منها هو عدم الاقتصار على ذلك المطلب لكي لا يقال بأنه هو فقط ما حمله البيان، ويدلل على ذلك ما في المطالبات من عمومية وتكرار وأفكار عامة، بالإضافة إلى وقوعها في المثلب الدائم الذي غالبا ما يقع فيه الفقيه التقليدي من تغليب لمصطلحات الأمة والأمة الإسلامية، مع أن الأمة لا شأن لها بما حدث في جدة وإنما المعنيون فقط هم السعوديون سواء من سكان جدة أو من بقية مناطق المملكة، ويمكن كذلك النظر في المطلب رقم 3 في البيان والذي نصه: (إعادة تخطيط محافظة جدة وفق أعلى المواصفات والمقاييس العالمية للمدن المتطورة) حيث يتضح أنها مجرد مطلب فضفاض وغير واقعي ولا معرفي. حتى الإيمان حين يكون سطحيا يتحول إلى قيمة سلبية لا تحفل بالحياة ولا بالعمل ولا بقراءة ما يحدث على أنه هو المدخل الفعلي للإيمان والإجلال، ولقد اكتظت الثقافة التقليدية في قضايا الإيمان ببعض الأفكار السلبية التي أدت إلى كثير من توتر تلك العلاقة، ويمكن القول بأن الجماهير رغم عموميتها ومنذ أن دخلت حياة المدينة قد استطاعت أن تحمي إيمانها وعلاقتها بالحياة مما قد يفرضه الإيمان السلبي من أنماط تجعل من الحياة قيمة سلبية لا جدوى من إصلاحها، إن ترك أسلاك الكهرباء مكشوفة لا يمكن معه مثلا القول بأن من يتعرض لصدمة كهربائية حدث له ذلك بسبب الذنوب والمعاصي. مثل هذه البيانات والتي تبدو وكأنها نوع من المقايضة التي غالبا ما تدور على ألسنة من يرون أنهم هم من يحفظ الأرض والعباد والناس، وأن أي دور جديد لغيرهم، حتى تلك الأدوار التي تغيرت قوانينها بفعل مستجدات الحياة والحياة الحديثة يظهرون في كل حادث وكأنهم يشيرون بشكل أو بآخر إلى أن السلامة والنجاة تكمن فيما لديهم، مع أن كثيرا مما لديهم يفتقد لوعي في التعامل معه ولذلك تتحول كثير من آرائهم الدينية إلى آراء جارحة وصادمة وحادة، ويكفي أن نتخيل شكل الألم الذي يعتصر قلب رجل فقد أبناءه وهو يقرأ رأيا يطرحه أهله على أنه بسند شرعي يقول بأن ما أصابه من كارثة كان بفعل الذنوب والمعاصي. وبكل بساطة سيتساءل أي المدن أكثر ابتعادا عن المعاصي؟ مدينته التي تعرضت لهذا السيل أم تلك المدن في مختلف أنحاء العالم التي يهطل المطر فيها ليلا ونهارا. في الواقع فإن الحديث عن الصبر والحقوق والتكاتف والإخاء والوحدة الوطنية، وليست الوحدة الإسلامية، هي العبارات التي تحتاج إليها مثل هذه الظروف، لكن الأكثر مدعاة للتوقف عند هذا البيان هو ما يتسبب فيه من تعميق وتوسيع لدائرة الجفوة بين الناس وبين الفقيه، خاصة أنهم اعتادوا أنه كثيرا ما يظل بعيدا عن القضايا التنموية والمعاشية التي تهم حياته. وحتى حينما يتناولها يتم ذلك وفق ما يخدم رؤيته ومطالبه أكثر من كونه يخدم القضايا التي تهم حياة الناس. إنما لماذا لا يفكر القائمون على البيان بإصدار قائمة تتضمن تلك المعاصي والذنوب التي ساهمت في عدم تصريف مياه السيول في جدة، وتوزيعها وفق الإحداثيات الجغرافية على أحياة جدة، وبالتالي وضع أيدينا على منطقة الكارثة الحقيقية، لكي يتم تشكيل لجنة خاصة لتقصي المعاصي والذنوب التي تغرق فيها جدة!! هذا كلام مثير للاستياء إلى أقصى حد، ولا شبيه له إلا بما جاء في حديث مشابه لبعض المشتغلين بالعلوم الشرعية عن ما تعرضت له منطقة العيص من زلازل في وقت سابق من هذا العام، وما يحدث من عملية ردع في المناطق الحدودية في جازان إذا دارت أهم أفكار ما صدر منهم عن الذنوب والمعاصي، وهو ما يشير إلى ضيق في الرؤية والأفق تغيب كل قيم التدين القائمة على الرحمة والخير لتدور حول العقاب وإنزال الكوارث والمصائب، وضيق الأفق أبرز سمات العقل الفقهي التقليدي المتأزم، لكن الضحية الحقيقية في كل ما يحدث من بيانات تجرح قلوب المكلومين ليست دعواتهم وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل على كل من رأى بأن ما تعرضنا له من الذنوب والمعاصي، ولكن الضحية الحقيقية هي هيبة الفقه وصورة الفقيه في أذهان الناس. خاصة إذا بات الناس يتعرفون عليه من أمثال هذه البيانات والتي يرى أصحابها وكأن القدر يسير وفق قناعاتهم فيكره ما يكرهون وينكر ما ينكرون. إن الله تعالى يحب جدة وأهل جدة ويحب السعودية وأهلها، انظر كيف وهبهم الله ملكا عظيما هو خادم الحرمين والذي لا تصمد الآلام ولا الكوارث أمام رؤيته وإدارته وحكمته وقوته في الحق، وبتوفيق من الله الرحيم.