اعتبر البنك الدولي في وثيقة رسمية صادرة عنه عام 1992 أن الفساد نتاج للشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأن العادات والتقاليد الخاصة بكل بلد كالرابط العائلي والقبلي والجماعي ينعكس في أرجح الحالات على سلوك العاملين في الدولة. بمعنى آخر.. البنك الدولي يتحدث عن الفساد ودور اللحمة الاجتماعية في تعزيزه أو تقليصه، وواقعية مشهد الفساد تشير إلى أن أكثر من دائرة أو محيط إداري أو تقني أو حكومي أو مخصخص تزدهر بين المنتمين إليه ثقافة «أدهن السير» و«ارفع وأنا اكبس» أو«الأقربون أولى بالمعروف» إن أرادوا إضافة مسحة دينية تتستر على أعمالهم، فالأب يورث أبناءه مقعده الوظيفي، والخال يشرع إدارته لتوظيف أبناء أخواته، والصوت القبلي يرتفع ليصبح المعيار في قبول أو رفض المتقدمين، والبعد المناطقي يحول الإدارات إلى ثكنات جغرافية بين شمالي وجنوبي ونجدي وحجازي وحضري وبدوي، ولا صوت يعلو فوق صوت الكيانات الموروثة «القرابة القبلية المناطقية الطائفية ...»، وتنقلب آية القول: إن الفتى من قال كان أبي، وليس الفتى من قال ها أنا ذا!، وسؤال المقابلة الشخصية الملح: قل لي شجرة عائلتك.. أقول لك أين موقعك، وعلى هذا المنوال لا تجد غرابة حينما تتجول مشاهدا في بعض دوائرنا احتكار الحصة الأكبر من كعكة الوظائف لقبيلة أو منطقة دون أخرى. الأبحاث والدراسات الإدارية تؤكد على أن الإدارات الوسطى تتمتع دون غيرها بمساحة أكبر لممارسة الفساد بأشكاله المتعددة، وفي مجتمعنا تشكل اللحمة الاجتماعية في بعض أشكالها محفزا لبارونات الفساد لاستثمار كراسيهم منفعة لأبناء جلدتهم وحرمان المستحق من مكانه أمام القريب، وغالبا ما يتم ذلك بنسبة أكبر في وسط الهرم البيروقراطي الذي يضمن لمن يعتليه سياجا منيعا مكونا من «المتفضل عليهم» من أبناء العمومة والمنطقة يحول بينه وبين أن يذيع صوت فساده، مرددا بكل ثقة «دهنا في مكبتنا»!. بالله عليكم.. كم مرة سمعتم عبارة «هذا وراه ظهر» تقرع عليكم والدهشة تعتريكم من سلوك ومعاملة وعمل وإنتاج صاحب الظهر المنيع مستندا في فساده ومحسوبياته على «حيطة» يضرب فيها كل معترض بلسان حال «أعلى ما في راسك اركبه»، وتلك «عربجة» الفاسدين.. فمن أوجد ذلك الظهر الشديد، ومن أعطاه تلك الصلاحيات التي تظلل عمل المفسدين، وما الذي يجعل المعترضين يؤثرون «عض الشحم» مقابل مواجهة من «وراه ظهر»؟، إنها نشوة الفساد المقنن اجتماعيا.. ويا حسرة من «وراه سراب».