نبدأ باستثناء مهم في مسألة العشائرية والقبلية والمناطقية وغيرها، وهذا الاستثناء يتطلب التحذير من تورم الذات القبلية وما شابهها فتعمى أبصار الأفراد عن كل شيء إلا القبيلة، فيكون حبه منطلقا منها وكرهه كذلك منها، متجاوزا المثل والفضائل، ومهمشاً لها، وجاعلها استثناء غير مهم، فالذي من قبيلته أو منطقته له الأولوية في كل شيء حتى ولو كان لا يزن جناح بعوضة، والذي من قبيلته يتم التصويت له حتى ولو كان أجهل من دابة أهله، وتزكيته لمن ينتمي لمنطقته تعد من الهبات والحقوق، لمجرد الانتماء حتى ولو كان من سقط المتاع. فهذه كلها من قبيل أسلوب الجهل والجهلاء، وضرب من الإقصاء العام لكل ما هو خارج هذه الدائرة الضيقة التي ارتضاها معيار الانتماء، معتز بالاسم لا بالأسلوب والسلوك الحسن، فمن صوت لمجرد القبيلة أو زكى لانتماء مناطقي أو عشائري فإنما يقتطع من مساحة أمانته ويحمل ذمته ما لا تحتمل، ومعياره هنا خاطئ لن يسره رؤيته يوم القيامة. يبذل المال والجاه من أجل الدعاية والشهرة للقبيلة أو المنطقة لمجرد التباهي، لا من أجل صلاحها وفلاحها ورفعتها وتقواها ونشر الفضائل بين أفرادها ومساعدة ضعيفها ونصرة مظلومها وعاجزها وردع ظالمها، معتبراً كل المكارم تتجمع في زيادة عدد أفرادها وتجمعها والفخر بها من دون مقومات للفخر معتبرة، وبالطبع نحن نعلم أن الفخر لا يكون إلا في الدفاع عن الفضيلة ومحاربة الرذيلة والرفعة بالتقوى وحسن الخلق، والبعد عن الخصال السيئة وعن الظلم والتعالي وتجنب غمط الناس حقوقهم، فإن لم يكن هذا فالبناء منهار من داخله ولو تم تلميع ظاهره. وعلى هذا انقسم الناس إلى قسمين ووسط، فبعضهم نسميه عظامياً يهتم بالماضي والأجداد فقط وما سطروه له من مجد وتاريخ ذهبي يعلقه في صدر حياته ومجالس فخره ورثه سماعاً غير محققاً، من دون أن يضيف له شيئا أو يشارك فيه بمجد، فهو عالة على تاريخ ومجد قبيلته، ويجيد تكرار الفخر السابق وهو رقم هامشي عالة عليهم فنقول فيه ما قال الشاعر: ليس الفتى من يقول كان أبي إن الفتى من يقول ها أنا ذا أو ما قال الشاعر أيضا: إذا فخرت بآباء لهم مجد نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا نعم بئس ما ولدوا من أولاد لم يسيروا سيرة أجدادهم فيكملوا بناء المجد والرفعة والعزة ومكارم الأخلاق ويحافظوا عليها، واكتفوا بالأماني والتعالي بما ليس من صنعهم فالفخر بأكثر من المعقول وبسلبية من الجيل يزرع الكراهية حقاً لأنه عكس العدل والإنصاف. فالمشكلة ليست في القبيلة التي سطرت مجدها وأجادت التصرف في ماضيها وحققت في أمسها كل عمل مشرف، بل في حفيد القبيلة وما ولدت، الذي تغنى بهذا وهو في حقيقة الأمر نقطة ضعفها، وليس لها عيب سواه. فهذا عظامي يفخر بالعظام التي بليت وأمة لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون، بل اعملوا فعملكم هو المهم بالنسبة لكم، فهلا عملت أيها العظامي لكي تكون مع أهل المفاخر ممن سبقك وأعجبت به؟ وفي الوقت نفسه اتخذت السيرة الحسنة لمن سبق حتى تكون امتداد مشرف. الصنف الثاني: يعارض القبيلة تماما ويريد إلغاءها من الوجود وشطب شيء اسمه القبيلة، ونفى المناطقية وفصل الفرد عن بلدته، فهذا يواجه طبيعة بشرية خلقت هكذا لا تستطيع الانفكاك عنه وبالتالي هو يصادم الواقع، فالله خلق الناس شعوبا وقبائل، فكيف يتم تغيير ما هو مطبوع خلقة، وكيف يقاوم الإنسان ما جبل عليه، فهو بطبعه صاحب انتماء ولكن عليه أن يتقي في انتمائه ويعدل في أسلوب حياته فلا يسلم قيادته وانقياده للأهواء بل للمنهج الرباني فحسب ولنا عقول تميز. أما القسم الأخير فهو ما نسميه الوسط، فهو يعترف بالقبيلة والمناطقية والإقليمية والمجتمع الذي نشأ وترعرع فيه، ويحبه ويحرص عليه، ولا ينفك من قبيلته، ولكنه لا يقف عند مجد صنع بالأمس بل يضيف له، كما لا يقر ظلما ولا منقصة حتى ولو صدرت من قبيلته فهو ضد الجور والعدوان وضد الفخر بلا فخر وضد السوبر قبيلة المنزهة من العيوب، فهو صالح ومصلح، ونسميه العصامي الذي شمر عن ساعد الجد وأضاف لأهله وقبيلته وبلده ومنطقته ما يجعلها تضيفه في صفحاتها المشرقة ويتسلم مفاتيح الانضمام لها بشرف وكرامة، لم يتوقف عند الأماني ولم يحصر اعتزازه بمشهد عدد قبيلته وملابسهم وجاههم وهو متفرج يتمنى. ومما تجدر الإشارة إليه أن نعي وبكل يقين أن القبيلة حتى ولو كبير حجمها وكثر عددها، خلية صغيرة في جسم أكبر يحتاج إليها حية سليمة رشيدة تتنفس الحيوية وتتمتع بالصحة، وتشد مع بقية الخلايا أو القبائل جسم الأمة كلها في تناغم تتعاون مع بقية القبائل، لا أن تنفصل ظانة بأنها الكل في الكل، فالقبيلة وحدها وكذلك المنطقة ما هي إلا جزء إذا انفصل عن غيره ضعف وقد يعوض هذا الضعف بافتعال الأمجاد، وهو تعويض نقص لا يتعدى الناحية الإعلامية، أو الهالة التي لا تظلل من حر فتنة، ولا تقي من برد خطر، وهذا هو السوس الذي ينخر في عظام الأمم. ولعل مثل هذا الحديث يطول وتفاصيله لا تنتهي، وقبل الختام نستمتع بأبيات قالها الشاعر المعروف منديل الفهيد رحمه الله قالها في وقت استشعر فيه سلوم العرب وما رآه من مكارم وستر وحفاظ على المبادئ، وهي ما نحرص على الحصول عليه فهو مدار اهتمامنا في هذه الحياة، وهو عزنا ومجدنا الحقيقي. إننا إذا استطعنا أن نزرع وننمي ونظهر الطيب في الفرد والأسرة والقبيلة وعموم المنطقة التي ننتمي لها، ونطبق مكارم الأخلاق التي هي أساس عزنا وقوام حياتنا فقد أصبنا هدفنا بحق. ونبقى مع قصيدة الشاعر منديل، وقد قالها عندما رأى شيئا من كرم الأخلاق وحسن السمت والستر وسرعة الضيافة والحفاوة والتكريم من أهل بيت لا يعرفونه ولا يدرون من هو، ولكنه كان في جولة في إحدى الروضات يستجم ويستمتع بمناظرها منفردا عن بقية رفاقه فلما مر قريبا من أحد البيوت قابلوه بالترحاب والبشاشة وسارعوا في تجهيز ضيافته من قهوة ووليمة ومع أنه يؤكد لهم أنه ليس ضيفا عليهم وإنما هو في جولة حولهم ومعه بعض رفقته إلا أنهم أصروا على استضافته وتكريمه، ومما أدخل على نفسه السرور والاطمئنان على مكارم الأخلاق التي في العرب وأنها باقية، عدم سماع أي صوت للنساء رغم وجودهن في البيت، لا يفصلهن سوى ساتر من بيت الشعر، وأيضا عدم رؤيتهن أو حتى لمحة منهن، وهذه من الخصال الطيبة في المجتمع العربي المسلم الذي يتصف بالكرم والخلق الفاضل وهو ما نؤكد عليه هنا، بل هو الذي يفترض أن نركز عليه يقول الشاعر: يا ابو فهد مع طلعة الشمس سجيت يشوقني ممشى بنبت الوسامي كن الزهر زل العجم يوم راعيت ضافن على كل السهل والعدامي هذي طراة البدو رعي الدبش هيت وبأطرافهم قب سواة الادامي حين تقول أنس وحين عفاريت إذا اعتلوا قب نهار الزحامي هم مادة الإسلام قول وتثابيت مكارم الأخلاق فيهم تمامي فيما مضى لو كان فوضى لهم صيت واليوم به راحة ورغد وكمامي ثم يقول: فازوا بها اللي بادروا وانت خليت واللي بدا يلحق ولاله ملامي لومي على العاجز الى قال ياليت يتبع هوى نفسه بحب المنامي أما الشاهد في القصيدة فهو التالي، حيث أعجب بأهل بيت لا يعرفهم ولا يعرفونه إلا بعدما ودعهم على طيب التعامل والكلام، وعرف قبيلتهم وهذا غير مهم الآن فالكل فيه الخير والبركة وإنما الشاهد في إعجابه وإعجابنا بمكارم الأخلاق، وطيب الفعال، والتأكيد عليها ونكمل معه حيث يقول: لاحظت اهل بيت على الدرب مريت من دون عرفي بادروا باحترامي وكرامة ماقط مثله تحليت اسرع من الطبخة وهي باوتلامي نسوانهم كنه ورى ضلع حليت ماشفت زول ولاسمعت الكلامي حاجاتهم رمز بليا تصاويت ما لامحن وارخن مثان اللثامي شفت السلوم الوافية وارجهنيت وشفت العرب كله عليها تحامي امدح على فعل وانا ما تقصيت والمرجلة لولا الثنا ما تسامي ونخلص من هذا كله إلى الاهتمام بجوهر الأشياء وما يضيف لنا شيئا من التقارب والتعاون والتجمع على الخير والنصرة في إطار المبادئ الطيبة ولا عز لنا إلا بالإسلام ومكارم الأخلاق فمتى ما تغذت قبائلنا بها ومناطقنا بعبقها، فنحن في خير وجادتنا خضراء بإذن الله.