منصور النقيدان: ليسوا لصوصاً ولا شيوعيين الحادث الذى ترك المجتمع السعودي كالصلصال فى يد المثال منصور النقيدان - مجلة المجلة في نهاية الستينيات وحتى الثمانينيات كانت تجري محاولات ضخمة لأسلمة المجتمع السعودي قادها الإخوان المسلمون الذين سيطروا على التعليم العام والجامعات كنت في العاشرة من عمري حينما أذاع الراديو السعودي خبر احتلال عشرات من المسلحين يقودهم جهيمان العتيبي، معلنين فيه ظهور المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ظهر الفساد في البر والبحر. في مسقط رأسي بريدة سارعت الحكومة إلى نشر قوات الأمن بأسلحتهم في الممرات داخل الأحياء والشوارع الرئيسية، وتهامس الناس في بيوتهم ومع أصدقائهم عن قوى السحر والشياطين التي استعان بها جهيمان وجماعته للفرار أثناء الحصار، فكان يتجسد في هيئات متعددة مرة على صفة حشرة وتارة يلتصق بالسقف كالعناكب وأخرى يتحول إلى خنفساء. لقد أعيا العشرات من رجال الأمن وحين وضعوا القيود في يديه وقدميه تمكن من فكها ولاذ بالفرار، ولكنه سقط أخيرًا بعد أن أبطل الله سحره. في اللحظات التي عرض فيها التليفزيون السعودي مقطعًا يظهر جهيمان وهو مقيد على سرير كنت ملتصقًا بأمي واجمًا مرعوبًا من هول ما أرى. لم تفارقني ملامح جهيمان لسنوات طويلة. كانت سحنته كابوساً يطاردني ويبعث الفزع والخوف . أصبح جهيمان وسيلة تخويف وفزاعة تسيطر بها بعض الأمهات على أطفالهن إذا لم يمتثلوا للأوامر ويحلوا واجباتهم أو يذهبوا مبكرين إلى النوم. تحددت هوية العشرات الذين احتلوا المسجد الحرام أكبر مساجد المسلمين وأكثرها قداسة قبل انتهاء الاحتلال. فلم يكونوا لصوصاً ولا تجار مخدرات ولا شيوعيين ولا من الطائفة الشيعة. كانوا أتقياء عميقي التدين. غالبيتهم الساحقة من مواطني البلد ومن قبائل وعوائل معروفة وآخرون من جنسيات عربية وإسلامية. لهذا تلبست الناس حالة من النفرة والكراهية والاحتقار لهم. غدا المطاوعة من كل شرائح المجتمع مبعثاً للريبة والتوجس، فواجه كل صاحب لحية وثوب قصير أيامًا سوداء، كان يواجه الضغوط الهائلة في بيته وفي الحي وفي عمله وربما من الأمن الذي أصبح يرصد كل نفس ويلتقط كل من يبعث الشك. بعدها بشهور كنت ألعب مع الفتيان في السوق فتوقفت سيارة أمام بيت إمام مسجد الحي وخرج منها رجل في أواخر الثلاثين له لحية طويلة ويلبس ثوبًا قصيرًا، فتبادلنا النظرات وتهامسنا بيننا : ربما يكون واحدًا منهم. حلق كثير من المتدينين لحاهم إما خوفًا وإما استجابة لرغبات آبائهم، وتخلى آخرون عن مظاهر التقوى التي تميزهم عن بقية الناس، وكان الآباء يشعرون بالقلق الشديد حينما يرقبون اللحظات الأولى لتحول أبنائهم نحو التدين. قامت بعض العوائل الميسورة بإرسال أبنائها للدراسة خارج البلاد حماية لهم من التأثر بتلك الأفكار. أصبح رجال الحسبة رغم ضعفهم في تلك الفترة مهبطًا للنكات والسخرية، في بلدتي كان الناس يسمونهم ب"محمد لقافة" أي محمد المتطفل الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه، وفي ذروة العداء لهم انتقلت إلينا نحن الصغار العدوى، فإذا مرت سيارة المحتسبين أو النواب أثناء جولتها كنا نتبعهم باللعنات ونطلق النكات على ملابسهم وسراويلهم الواسعة. بعض الفتيات رفضن الزواج من أشخاص ملتحين. الأمهات والفتيات كان لديهن قناعة بأن الاقتران بواحد من هؤلاء هو قصة أحزان لن تنتهي إلا بالقبر. في الخمسينيات الميلادية كتب دبلوماسي أمريكي عاش في الرياض في مذكراته : "الجيل الجديد من السعوديين ابتعد كثيرًا عن الدين ولم يعد التمسك بالواجبات والالتزام بالصلاة يشغل بالهم". قبل احتلال الحرم راجت بين أوساط الناس حكمة تقول: كلما ازداد الرجل تدينًا نقص عقله واستبدت به الحماقة. وهو أمر مثير للدهشة في مجتمع متدين ووهابي كان قريب العهد بصحوة دينية وانبعاث عقائدي استمر لعقدين حتى نهاية عشرينيات القرن الماضي. كونت شرائح كبيرة من المجتمع خبرة متراكمة غير جيدة من مئات الأمثلة التي عرفوها من واقعهم عن المتدينين .كانت حادثة الحرم فرصة تاريخية لإعادة تشكيل المجتمع نحو حداثة فكرية متصالحة مع الإسلام مجففة لمنابع التطرف، فالتحرر السلوكي الاجتماعي والتسامح النسبي اللذان ازدهرا منذ الستينيات وشهد اندحار سطوة الفقهاء والمتشددين أعطتهما أحداث الحرم زخمًا ودفعة أكبر. كانت اللحظة مواتية لانفتاح فكري يمنح ذلك الفتور الديني العفوي عمقًا أكثر ويقوي جذوره . كنا في السنوات الثلاث التي أعقبت الحادث الأليم كالصلصال في يد المثال، فما الذي حدث؟ على خلاف ما كان متوقعًا، فقد بدا أن انبعاثًا دينيًّا يطل برأسه. كانت حسابات صاحب القرار مغايرة تمامًا، في نهاية الستينيات وحتى الثمانينيات كانت تجري محاولات ضخمة لأسلمة المجتمع السعودي قادها الإخوان المسلمون الذين سيطروا على التعليم العام والجامعات في وقت كان فيه الفقهاء الحنبليون يعانون من قصور في فهم التحول الكبير الذي تعيشه البلاد. كانت السلاحف قد وضعت بيوضها والبذور قد زرعت، وحين أميطت آثار جهيمان وقصم ظهر حركته، فقست البيوض وأثمر الزرع وعاش السعوديون منذ 1984، حتى اليوم قصة الصحوة الإسلامية. لقد كان ذكر اسم جهيمان من المحرمات لما يقارب تسع سنوات، في نهاية عقد الثمانينيات أعلن أحد أصدقائي بأنه يفخر بأن تكون كنيته (أبو جهيمان). منذ 1989 تقريبا انبعثت أفكار جهيمان، أعيد نسخ رسائله في باكستان وهُربتْ من اليمن والكويت، وفي عام 1990 انخرطتُ ضمن حفنة من الأصدقاء في جدال عن جهيمان وجماعته، كان بعضنا يبحث له عن أعذار. كان ذلك إعادة لصياغة موقفنا من أفكار جماعته. بعد قيام أربعة أشخاص بتفجير إرهابي في العاصمة الرياض نوفمبر1995، انتصر السعوديون على أنفسهم ولامسوا الجرح، فكتب حسن المالكي وهو باحث في الفكر السلفي في صحيفة الرياض عن فتنة احتلال الحرم والأسباب التي دفعت إلى ذلك، كانت بداية فصول قصة من التمدد العالمي للقاعدة والفكر الجهادي السلفي، مساوقًا لهذا كله كانت جماعة جهيمان تحظى مع الزمن بمنافحين من جيل لم يعش تلك الفترة، وبدلًا من الاعتذار والتبرير تحول جهيمان إلى أيقونة. بعد عقدين من التناسي والتجاهل، أصبح جهيمان رمزًا ملهمًا لمقاتلي القاعدة ، وفي مايو/آيار 2003، بدأت قصة أحزان أخرى بسلسلة من التفجيرات على الأراضي السعودية قام بها مواطنون جهاديون.