كان برنامج ''خواطر'' حديث المنازل خلال شهر رمضان الماضي، وما زال حتى اليوم يتسلل إلى أحاديث الناس اليومية وهم يتذكرون تعليقا لأحمد الشقيري أو أمرا صادما عن المجتمع الياباني أو يتحدثون عن الوقت أو النظافة أو غيرهما من السلوكيات التي ركز عليها البرنامج وهو يقارن ''بيننا'' وبين اليابانيين. الجميل في البرنامج أنه استطاع بشكل غير مسبوق أن يترجم الدهشة التي يعيشها إنسان محب لوطنه وأمته وغيور عليها وعلى مستقبلها عندما يزور مجتمعا متقدما، هي الدهشة نفسها التي تفاجئك عندما تزور أمريكا أو أيا من الدول الغربية المتقدمة أو حتى الصين، وأنت ترى أمما تسعى ضمن إطار حضاري نسمع عنه ونتمناه لأنفسنا. كان اختيار الشقيري لليابان ذكيا، فاليابانيون مثال خرافي في كثير من جوانبه، كما أن أحدا لن يتهمه بالانبهار ب ''أعداء الأمة'' (مثل لو كان يتحدث عن أمريكا أو الدنمارك)، إضافة إلى اختياره دائما سلوكيات يبحث عنها المسلمون ويتحدثون عنها على أنها مثل عليا لا يكاد يمكن الوصول إليها، بينما هي مطبقة بحذافيرها وبشكلها الأمثل في ''الكوكب الآخر - اليابان''. ما القيمة الفعلية لهذا الانبهار؟ هل فعلا ستسهم خواطر الشقيري في تحسين حالنا؟ هل ستؤدي هذه الصدمة إلى سلوكيات أفضل بين الناس؟ هناك نظريتان شائعتان حول الإجابة عن هذه الأسئلة. الأولى: الإجابة بنعم، ومن سيجيب بهذا الشكل هم الذين يؤمنون بأن إشعال شمعة خير من لعن الظلام، وأن السلوكيات الإيجابية تتراكم بفعل تزايد عدد الذين يقومون بهذه السلوكيات يوما بعد يوم، وأننا كلما اقتنع شخص جديد بسلوك إيجابي، تحسن حال الناس من حسن إلى أحسن. هذه الرؤية العملية المتفائلة هي التي تحفز أولئك الذين يعملون بطرق مختلفة على ''النصيحة'' ومحاولة كسب الناس لتطبيق خطوات عملية نحو الحياة الأمثل والأفضل، هي الرؤية التي تجدها واضحة في بعض أدبيات ''الصحوة الإسلامية''. النظرية الثانية هي الإجابة بلا. هؤلاء الذين يجيبون بهذا السؤال هم صف طويل من المفكرين الذين يرون أن الأمة لا يمكن أن يتحسن حالها إلا إذا تطورت بشكل شامل، وانطلقت في اندفاع نحو الحضارة، ونحو رؤية مستقبلية تخلق الطاقة في الأفراد والمؤسسات وتصبح المرشد الذي لا يجادل عليه أحد. هؤلاء المفكرون يقولون إن الغرب لم يكن ليصبح متقدما ويخلق حضارته ولم يكن هذا ممكنا لليابان لو كان هناك داعية ياباني يقنع شخصا كل يوم بأهمية المحافظة على الوقت أو النظافة، بل هي في الأصل قيم تترعرع ضمن الإطار الشامل وتصبح سلوك الناس الذي لا يتنازل عنه أحد فيما يشبه الثورة السلوكية. بالنسبة لهؤلاء المفكرين لا بد من قيم معينة ''تحفز'' الحضارة وتشعل شرارة الوقود التي تنطلق نارا وطاقة وحيوية يمتلئ بها شباب الأمة وشيوخها وعلماؤها ومفكروها وحتى الشحاذون منها. بالنسبة للغربيين كانت العلوم أو ''التنوير'' هي الشرارة الأولى وجاءت بعدها الشرارة الثانية وهي الحرية والحقوق الفردية لتخلق الحضارة الغربية، وبالنسبة للمسلمين في عهودهم الأولى، كانت الشرارة هي الرغبة العارمة بنشر قيم الإسلام لكل الوجود ثم جاء العلم كشرارة ثانية خلقت الحضارة الإسلامية التي سيطرت على العالم لقرون طويلة، أما اليابانيون فكانت شرارتهم تلك الرغبة الجماعية الهائلة بخلق الأمة اليابانية المتفوقة في كل وجوهها حتى إن الشخص إذا خذل الأمة سرعان ما يلجأ إلى الانتحار ليخلص أمته من العضو الفاسد وليحمي وجهه من الضغط الاجتماعي الغاضب عليه. ما الشرارة التي يمكن أن تطلق حضارة جديدة للعرب اليوم؟ ما الذي يمكن أن يجعل المجموع العربي والمسلم جزءا من عجلة تسير بسرعة هائلة نحو الأفق الجميل؟ هذه الأسئلة هي التي حاول الكثير من المفكرين الإجابة عنها، وإجاباتهم بقيت حبيسة كتبهم ومجالسهم دون أن تجد منفذا نحو الجمهور المشغول بقضاياه اليومية والجزئية، ولم يأت حتى الآن العبقري الذي يستطيع أن يحول هذه النظريات إلى قضية يومية في محور تفكير الناس ونقدهم بحيث نعرف إذا كنا نملك فعلا الإجابة عن السؤال أم ليس بعد. خواطر الشقيري أسهمت في صنع الصدمة التي ربما تجعل الناس تسأل يوما: كيف يمكن أن نصبح مثل اليابانيين؟ ولكن قبل أن يجيب أحد أحب أن أذكر بمثال مهم جدا وهو إندونيسيا. لقد احتل اليابانيون إندونيسيا، والاستعمار الياباني هو أغرب استعمار من نوعه، لأنه استعمار يؤمن بنشر القيم اليابانية، وبالفعل قام اليابانيون بقوة الحديد والنار بنشر قيمهم هناك ضمن السنوات القليلة التي بقوا فيها حكاما على جاوة وما حولها، وما زال التأثير الياباني قويا حتى اليوم، فالإندونيسيون خاصة في جاوة لهم هوس عجيب بالنظافة ودقة الوقت وغيرهما، لكنهم ما زالوا كذلك أمة متخلفة ضعيفة كسولة لا تقل ضعفا وتخلفا عن العالم العربي إن لم تكن أكثر. الشقيري ذكرنا بالأسئلة الصعبة، واليابان هي المثال الأكثر حدة، ونحن نعاني كل يوم، وما زلنا بحاجة إلى إجابات عن تلك الأسئلة، كما ما زلنا نبكي من أجل حلم حقيقي..!!