بعد أيام من افتتاحها وجدت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية نفسها موضوعاً لمعركة إعلامية داخل المجتمع السعودي بين تيار استبشر بما تمثله، وما يمكن أن تحققه من نقلة في مجال العلوم والأبحاث، وتيار آخر وجد نفسه مشغولا بقضية جانبية فرضتها الجامعة. التيار الأول هو ما يصطلح على تسميته ب "التيار الليبرالي"، والثاني هو "التيار الديني". أما القضية موضوع التجاذب فهي الاختلاط بين الجنسين في أول جامعة في السعودية تسمح بذلك. كان من الطبيعي، بل من المتوقع أن مسألة الاختلاط في الجامعة سوف تفرض نفسها يوماً ليس ببعيد، وسوف تثير جدلا في المجتمع، وأن هذا الجدل مرشح أن يصل إلى حد التشنج. حاولت التغطية الإعلامية لافتتاح الجامعة تفادي ذلك بعدم التركيز على موضوع الاختلاط فيها، وتسليط الضوء بدلا من ذلك على ما تمثله الجامعة من النواحي العلمية والحضارية. ولعل هذا كان هو المطلوب في حق مثل هذه الجامعة، لكنه لم يجدِ نفعاً في تفادي المواجهة. ما يؤشر إلى أن هذه الطريقة في التعامل مع مثل هذه القضايا لم تعد ناجعة في هذا الزمن. ما حدث كان مهماً، لأنه أول معركة باسم الاختلاط في السعودية. صحيح أن الاختلاط مسألة ثانوية في إطار الجامعة وأهدافها، لكن الأمر ليس كذلك في إطار المجتمع الذي ظهرت فيه الجامعة. هذا مجتمع سُمح فيه للخطاب الديني المتشدد أن يصوغ رؤى الناس ومواقفهم من مثل هذه القضايا، لعقود، بل قرون من الزمن. وهذا أمر كان لابد من مواجهة تبعاته في الأخير. وصحيح أيضاً أن هناك سوء فهم سائد لمسألة الاختلاط، وأن هناك غلوا لدى البعض في رفضهم للاختلاط جملة وتفصيلا، لكن مرة أخرى كان لأسلوب التعاطي السائد مع مثل هذه المسألة دور في ذلك. الأمر الذي جعل من معطيات المواجهة موجودة منذ زمن بعيد، ولم يكن هناك مجال لتفاديها. يمكن القول بأن أحداً لم يسع إلى المعركة التي انفجرت. كانت معركة محتومة فرضت نفسها على الجميع. كانت تنتظر لحظتها، ومسوغاتها. وقد جاءت هذه اللحظة، وبرزت تلك المسوغات مع افتتاح الجامعة. المعركة في حقيقتها بين تيار ديني نشأ على أنه صاحب النفوذ، وتيار إصلاحي يريد مراجعة أمور كثيرة انطلاقاً مما يقتضيه تقدم المجتمع. كان الشيخ سعد بن ناصر الشثري، عضو هيئة كبار العلماء، هو الذي فجر المعركة في لقاء له مع قناة "المجد" (الإسلامية). ليس مهماً إن كان هذا ما هدف إليه أم لا. المهم أنه قال ما قاله في لحظة مواتية. بعد حديث الشيخ مباشرة بدأت حملة صحفية منظمة عليه، وعلى ما قاله عن الاختلاط في الجامعة. ثم تلا ذلك، وبالسرعة نفسها، سيل من الردود العنيفة، والبذئية أحياناً، دفاعاً عن الشيخ، ليس في الصحافة، وإنما في كثير من المواقع "الإسلامية" على شبكة الإنترنت. كانت المعركة قصيرة، ولم تستمر لأكثر من ستة أيام، انتهت بإعفاء الشيخ الشثري، من منصبه. لم يكن قرار الإعفاء بناءً على طلب الشيخ، كما درجت العادة. الأرجح أنه جاء لحسم الموضوع، ووضع حد ما كان ينبغي له أن يتجاوزه، من وجهة نظر ولي الأمر. لكن الأخبار كانت قد ذكرت قبل ذلك بأن الشيخ قدم استقالته، وأن الملك قبلها. ما يعني أن الشيخ اقتنع بعد كل ما حصل أنه لم يعد له مكان في المنصب الذي كان يشغله. من المهم أن نستدرك هنا بأن الشيخ كان في حديثه حفياً بالجامعة، لكنه أبدى ملاحظتين أسهب في الحديث عنهما: إحداهما هي التي فجرت المعركة، وهي إشارته إلى أن الجامعة مختلطة، وتحذيره من مغبة ذلك على دورها، ثم توصيته الملك بمنع هذا الاختلاط درءاً لما يمكن أن يترتب عليه من مفاسد كما قال. موقف الشيخ هذا ليس جديداً أو مفاجئاً، فهو موقف قديم، ويشترك فيه جميع علماء الدين في السعودية. المفاجئ فيه أنه صدر عن عضو في هيئة استشارية للملك، وفي حق مؤسسة يتبناها الملك نفسه، ويعتبرها أحد أهم مشاريع الإصلاح التي يعمل على تحقيقها في السعودية. بذلك يكون الشيخ قد أعلن عن اختلافه مع الملك أمام الملأ. وقد فعل ذلك بكل ما يتطلبه مقام الملك من أدب واحترام. لكن حساسية الموضوع، وتاريخ العلاقة بين المؤسستين الدينية والسياسية، ثم خروج الشيخ في هذا الإطار ليعلن عن اختلافه، كل ذلك لم يترك مجالا لتفادي الصدام. لعل الشيخ أراد بملاحظته تقديم النصيحة لولي الأمر، لكنه يعرف بحكم انتمائه للمدرسة السلفية، وللتقليد السائد فيها، أن مثل هذه النصيحة كان ينبغي أن تكون في السر لا في العلن. نتحدث هنا عن الموضوع من زاويته السياسية، وتأثيرها على الناس، ولم نتناول الموقف من مسألة الاختلاط من الزاوية الشرعية، وهل رأي الشيخ يمثل الأغلبية، أو كما يقول الفقهاء رأي الجمهور، ليس فقط في السعودية، بل كما هو في المصادر الفقهية للمذاهب الأربعة. وهذا ليس موضوعنا هنا. المهم أنه أمام ما قاله الشيخ لم يعد من الوارد بالنسبة للملك أن يلغي الاختلاط في الجامعة الجديدة. فهي مؤسسة تعليم دولية، والهدف منها تحفيز البحث والتفكير العلمي، ونشره على أوسع نطاق. إلغاء الاختلاط في هذه الحالة يعني بالضرورة واحداً من أمرين: إما إغلاق هذه الجامعة، وهو خيار لم يعد مطروحاً لأنه يعني خضوع الملك للتراجع عن قراره تحت ضغوط، فضلا عن أن الجامعة فتحت أبوابها. والخيار الثاني تحويل جامعة عالمية إلى مؤسسة محلية، ما سيؤدي حتماً إلى وقوعها في براثن التقاليد الاجتماعية والبيروقراطية، وبالتالي التراجع عن دورها ونموذجيتها الإصلاحية. من هذه الزاوية يكون الشيخ قد وضع نفسه مع الملك في موقف حرج. وهنا تحديداً يتبدى جلياً خطأ الأسلوب الذي ظل سائداً في التعامل مع قضايا تتقاطع فيها العادات مع الدين، مثل الاختلاط، ومسؤولية هذا الأسلوب في تكثيف حساسية هذه القضية. ومن ثم فالمعركة كانت في حقيقتها بين تيار ديني نشأ وتربى على أنه الحاكم في مثل هذه القضايا، وتيار إصلاحي يريد إعادة النظر في أمور كثيرة انطلاقاً مما تقتضيه مصلحة المجتمع في التقدم، والتسلح بسلاح العلم. الملاحظة الثانية التي أبداها الشيخ في حديثه للقناة أنه طالب بلجان شرعية في الجامعة لتفقد ما يدرس فيها من علوم، للتأكد من مطابقتها لمقتضى الشريعة. وهذه ملاحظة أكثر خطراً من الملاحظة الأولى. وقد أشار إلى ذلك الدكتور أحمد العيسى، وهو صاحب كتاب عن وقوع التعليم في السعودية ضحية ل "غياب الرؤية السياسية، وتوجس الثقافة الدينية". وملاحظة الشيخ خطيرة لأنها تنطوي على إلغاء حرية التفكير العلمي، وحرية البحث العلمي في مؤسسة علمية. والأدهى من ذلك أن مؤدى مطالبة الشيخ أن توضع جامعة الملك عبدالله بأساتذتها وطلابها ومناهجها العلمية، تحت وصاية لجنة غير مؤهلة، لأن أعضاءها لا يفقهون شيئاً في كل العلوم التي تدرس في هذه الجامعة. وهذا يدل على الأرجح على أن الشيخ كان يتحدث عن موضوع لا يعرف عنه شيئاً: لا عن طبيعته، ومتطلباته، ولا عن مراميه. الآن وقد انتهى الأمر بإعفاء الشيخ، ربما قال أحدهم بأن المعركة لم تكن متكافئة. فالملك هو صاحب مشروع الجامعة، وهو المدافع الأول عنها. وقد استغل "الليبراليون" ذلك غطاءً يتدثرون به في مواجهة التيار الديني. وهذا صحيح. لكن التيار الديني كان ولا يزال له السبق في ذلك. وقد نجح في توظيف هذه الميزة لمصلحته سنين مديدة. كل منهما يحاول أن يستقوي بالدولة لفرض رأيه، وخياراته على الآخر. وهذا مؤشر على أن كلا التيارين ضعيف، وإن كان أحدهما، أو التيار الديني، يحظى بمساحة واسعة من القبول والدعم، داخل الدولة، وخارجها. وبمثل هذه الوضعية لم يرتق الجدال بينهما إلى ما يحقق التنمية الفكرية والثقافية داخل المجتمع. على العكس، يسود بينهما سجال مكرر وعقيم، تستخدم فيه الشعارات، والعبارات الرنانة، لكن من دون دخول في القضايا الجوهرية للاختلاف. في هذا الإطار يمكن ملاحظة أن من هاجموا موقف الشيخ، لم يتبنوا مشروعية الاختلاط، ولم يدافعوا عنه مباشرة. فعلوا ذلك مداورة، وبشكل غير مباشر، ما يدل على هشاشة فكرية، أو ضعف في الموقف السياسي، أو كليهما معاً. الذين قادوا الحملة المضادة كانوا أسوأ حالا. حيث تميز أسلوبهم بالتشنج، وببذاءة التعبير أحياناً. توقفت المعركة بما يعتبره الليبراليون انتصاراً لخيارهم. لكن هل انتهت المعركة فعلا؟ هل حسمت لصالح هذا التيار أو ذاك؟