منصور النقيدان * الرياض السعودية للجمال دائماً أنصار ينحازون إليه، وحزب يذب عنه، وجند تتعصب له، كما أن له قلوباً تكسرها سطوته، وأرواحاً معلقة به يؤسيها فراقه، ويسقمها هجرانه، وله ندابون يهيمون به بعد رحيله، يستذكرون سويعات أريجه وعبق ذكراه، وإذا كانت فلسفة الحُسْنُ اختزالاً لثلاث صفات هي الوفرة، والقوة، والذكاء، فإن للجمال الروحاني المتعالي عن المادة والحس شأناً أكبر وسراً أخطر. وهكذا كانت قصة ذلك الصوت الأسطوري الذي اكتمل رونقه في طيبة على خطوات من مثوى الرسول عليه السلام، وتنسمت الطائف شذاه ووادي الأراك هواه، حتى حطت به أشواقه وآماله ومنتهى أحلامه دانياً من البيت العتيق، صادحاً في أروقة المسجد الحرام ليلة الثالث والعشرين من رمضان عام 1401 ه. كانت نفحة من رحمة السماء، ومودة الرحمن، ونعي سورة يس للبشر الخاطئين، وجلال آية المشكاة في سورة النور. كان الجمال ليلتها حناناً من لدن الخالق وهبة منه حين أم المصلين فيها علي عبدالله جابر، فتضوعت الألطاف ولانت القلوب وهام العاشقون بملكوت السماء، وهمهمت الشفاه بتسبيح الودود وبديع صنعه. كانت إمامته ليالي رمضان سنواتٍ ثمانيَ متقطعة نبعاً لا ينضب من الطمأنينة والجلال وألق السماء، والصبا تهدهد كل من لاذ بالبيت وعانق الملتزم، أو تسمر أمام التلفزيون أو أصاخ بسمعه إلى الراديو، ولأن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْناً، فقد كان علي جابر ليلتها ضرباً من البهاء لا يتكرر. لقد كان جوهرة أتت إلى هذا العالم ثم مضت، فلا مثال على منوالها، ولا حنجرة تدانيها. كانت تهاويل ذلك الجمال تتجلى في تلك اللحظات التي تسبق الركوع بآية أو آيتين، حين يهيؤ الشيخُ مَنْ وراءه لنقلة هي كالبرزخ بين عالمين، أتذكرونها؟ إنها تلك الأجزاء من الثانية التي تستلُّكَ من عالم المادة في حالة أشبه بالنعاس كالأمَنَة من ألطاف الرحمن، أو كمرتحل على خوافق طير خضر نحو السماء، بعيداً بعيداً عن دنس النفوس ووطأة الأرض، ورياء القلوب وزيفها. في تلك الفجوة بين عالمي المادة والحس كانت تتبدى عبقرية علي جابر. خلال ثمانية وعشرين عاماً في أثناء حياته وبعد رحيله، حاول كثير من القراء اقتفاء أثره ومحاكاته، وكان امتحانهم العسير ومعيار إخفاقهم أو نجاحهم يتمركز في تلك الوصلة التي يصر كثير منهم على اقتحامها وتجشم عنائها، ولكن جمال الأداء والصوت الذي حباه الله لعلي جابر كان شيئاً فوق ذلك، كان هبة مقصورة عليه، لأنه كان عاشقاً للقرآن، مدنفاً حتى الثمالة بتلك الآي التي يرفل بقراءتها بخيلاء لا يقاربه إبداعاً وسحراً أخاذاً، إلا عبدالباسط، وعبد الباسط قصة أخرى. كان علي جابر منذ صغره منجذباً إلى محراب البيت الحرام بكل جوارحه، صادقاً في رغبته، فكانت تلك السنوات الثماني تتويجاً لذلك الحب الذي سيطر عليه واستبد به، وحين قدِّر عليه البعاد عن الإمامة في سنواته الست عشرة الأخيرة، قام على فترات متقطعة بالإمامة في مسجد بقشان بجدة، وتبع الناس ذيله وتقفروا أماكن إمامته، ولكن رغم كل ذلك العزاء فقد ذبل الجمال وغشيته الأحزان وبهتت منمنمة البهاء التي جللت صوته، وهكذا يفعل المحبون حينما يحال بينهم وبين مهوى قلوبهم، وتتقطع حبل وصالهم بمن تيمهم. قديماً قال أعرابي موجوع: حلفت لها بالله ما أمُ واحد إذا ذكرتْه آخر الليل أنَّتِ ولا وجدُ أعرابيةٍ قذفتْ بها صروف النوى من حيثُ لم تكُ ظنتِ لها أنةٌ عند العشاء وأنةٌ سحيراً ولولا أنتاها لجنتِ إذا ذكرتْ ماءَ العُذيب وطيبَه وبردَ حصاه آخر الليل حنتِ بأكثر مني لوعةً غير أنني أُطامنُ أحشائيْ على ماأكنتِ بعد وفاة علي جابر كتب أحد من عرفوه في تأبينه أنه بعدما نأى عن الصلاة بالمسجد انكسر قلبه، وهذا أبلغ وصف يمكن أن يجسد حالته في خريف حياته التي لم تتجاوز الرابعة والخمسين. شاهدوا على يوتيوب مقاطع له في المسجد الحرام وهو يقرأ خواتيم سورة الحج، وفاتحة سورة الإنسان، ومواضع من سورة الشورى، وبضع آيات من سورة النور، تقص للعباد نزول الغيث وتراكم السحب وعن جبال فيها من برد، وإن كنتم ممن فقد حبيباً فأصغوا إليه وهو يقرأ خواتيم سورة يوسف فلا أحلى ولا أرق ولا أعذب، ذلك أن من يتأمل كيف يغدو المشهد ليالي رمضان والطائفون يحيطون بالكعبة في حركة دائبة تخلب الألباب، والتائبون يسحون دموعهم بين الحطيم وزمزمِ، ومئات الألوف شخوص في سكينة وإخبات، والنسمات الندية تهفهف بالمصلين وزقزقات العصافير كزجل التسبيح، كل ذلك بأجمعه هو ما ينسج الجمال ويظفره بأريج صوت الشيخ الراحل الأسيف. كان قرار الملك خالد بن عبدالعزيز بتعيين علي جابر إماماً في ليالي رمضان منعطفاً في تاريخ الإمامة بالمسجد الحرام، فقد كانت مرحلة جديدة انبلجت بها آمال من طمح من الحفاظ اليافعين لذلك المقام الأرفع، فازدهر جيل من القراء يندر أن توافرت أعدادهم في أي مرحلة تاريخية سبقت. مع لقيمات من الرطب وعبق الهيل الذي يفوح من فناجين القهوة في ساحة الحرم وأروقته، كان الشيخ عبدالله الخليفي يتهيأ ليتقدم الصائمين في صلاة المغرب، لينفث في روعنا بقراءته سورة التين ألطاف رحمة الله وامتنانه بنعمة البيت العتيق والبلد الأمين وأفضاله على الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم، وكان علي جابر بعدها بساعتين ينسج بقراءته قصة ألم الإنسان وتيهه وطغيانه وجهله، وأيام الأنبياء مع أقوامهم ونهايات أعدائهم المحزنة ويحلق بهم نحو آفاق رحمة الله وشفقته بخلقه، وتبلغ القصة ذروتها حينما يصدح بآية سورة يس ناعياً ظلم العباد لأنفسهم موقظاً القلوب كطرقات القَدَرِ (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون). فرحم الله علي جابر.