عبدالله ناصر الفوزان - الوطن السعودية الفتاوى التي تخطئ في القياس كثيرة، وبعضها بالغ الخطورة، لكن أكثرها وضوحاً في الخطأ في القياس تلك التي تكون غير قابلة للتطبيق ويحصل الخطأ حين يستند من يصدر الفتوى إلى حالة قديمة تكون مشابهة للحالة القائمة في الشكل لكنها مختلفة كثيراً في المضمون. عندما بدأت أنفلونزا الخنازير تنتشر في العالم، وبدأت وزارة الصحة عندنا تفصح عن الحالات لدينا، وكان ذلك في بداية الصيف مع استعداد الناس للسفر أفتى مرجع ديني كبير معتمد كما ورد في صحيفة الرياض آنذاك بحرمة السفر من الدول التي ظهر فيها مرض أنفلونزا الخنازير وإليها وبرر ذلك بالقول إن السفر في تلك الحالة (مخالف للشرع ويندرج تحت من يعرض نفسه للتهلكة) مؤكداً كما قالت الرياض (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا وقع الطاعون في بلد ألا ندخله وإذا وقع ونحن فيه ألا نخرج منه لأن موت الطاعون شهادة) وأكد قائلاً (إذا علمنا أن البلد موبوء بمرض أنفلونزا الخنازير يحرم علينا السفر له لأننا بهذا نلقي بأيدينا إلى التهلكة). هذه الفتوى ليست فقط تحرم مغادرة المملكة أو القدوم لها إلى أو من بلدان فيها إصابات بأنفلونزا الخنازير بل تحرم السفر من وإلى أي مدينة أو قرية في المملكة حصلت فيها إصابات بأنفلونزا الخنازير، ولكن لأن الفتوى لم تستند إلى الواقع الحقيقي الذي هو درجة خطورة أنفلونزا الخنازير، ودرجة احتمال الشفاء منها، وزمن الإصابة بها. وتقدم أساليب العلاج عن ذي قبل، والتغير الشامل في العلاقات بين البلدان، وأساليب المواصلات إلى آخر المتغيرات الكثيرة، وإنما تم الاستناد لحالة قديمة قد تكون قريبة في الشكل ولكن مختلفة في المضمون والظروف وأوضاع السكان مما يجعلها لا تصلح للقياس، فقد تعذر الأخذ بها، بل تعدى الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك إذ تطلب فتاوى معاكسة تدحض أي شبهة تتعلق بالسفر إلى مكة لأداء العمرة أو الحج كما لاحظنا في وسائل الإعلام، ولا شك أن المرجع الديني الكبير الذي أصدر الفتوى مجتهد ومخلص في فتواه، وله مقاصد حميدة ولكن العبرة لا تكون بالمقاصد بل بالنتائج. ويوم الأربعاء الماضي استخدم فضيلة الشيخ عبدالله بن منيع وهو يتحدث عن الحلال والحرام في المشروبات الغازية فتوى قديمة مشابهة بتحريم أي طعام أو شراب يثبت أن مضاره أكثر من فوائده، وواضح مما أورده الشيخ أن الفتوى استندت إلى القياس على ما ورد في الآية الكريمة عن الخمر والميسر «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» وقد قرر الشيخ مستخدماً تلك الفتوى تحريم تناول المشروبات الغازية إذا ثبت طبياً أن ضررها أشد من نفعها وكان ذلك فيما يبدو صادماً للكثير من القراء ومثيراً لدهشتهم. الشيخ عبدالله كما هو واضح لم يحرم المشروبات الغازية ولم يورد شيئاً من عنده، فالفتوى موجودة في كتب الفقه وكل ما في الأمر أنه طبقها عمليا على المشروبات الغازية وهي قابلة للتطبيق على كل أكل أو شرب لم يرد في الشريعة تحريم أو تحليل له، لكن الخلل أنها فتوى غير قابلة للتطبيق لأسباب تختلف عن أسباب عدم واقعية الفتوى الأولى التي استشهدت بها. وهذا في رأيي هو المأخذ على الشيخ عبدالله، فطالما أنه ليس مطلوبا من أي أحد – حسب ما يفهم من مقاله – أن يسعى طبياً لحصر درجة الضرر والفائدة في كل أنواع الأطعمة التي يتناولها حتى يتوصل إلى الإباحة والتحريم فما الداعي لاستخدام هذه الفتوى وما الفائدة منها...؟ الفتاوى القديمة القائمة على الاجتهاد قد تكون صالحة في عصرها ولا تكون صالحة في عصرنا بكل ما فيه من مستجدات ضخمة تتطلب اجتهادات بناءة تأخذ في الاعتبار هذه المستجدات، ولهذا فنحن محتاجون لفتاوى قائمة على الاجتهاد أكثر من حاجتنا إلى فتاوى تأخذ بالقياس. وقد كانت الفتاوى إلى وقت قريب لا تصدر إلا من لجنة مختصة تستعين بمختصين في العلوم الأخرى ولا تُصدر فتاواها إلا بعد بحث طويل وتأكد، لكن تغير الأمر الآن خاصة بعد انتشار الفضائيات حيث أصبحت الفتاوى (على الهواء مباشرة) وفي المجالس، ومن هنا تكمن الخطورة إذ يتم - تحت تأثير الاستعجال - الاستخدام السريع للذاكرة بحثاً عن حالات القياس التي قد تكون مشابهة في الشكل ومختلفة كثيراً في المضمون بفعل المتغيرات الكثيرة لعصرنا عن العصور السابقة.