لقد قرر المحققون من علماء المسلمين أن الاختلاف في التعاطي الدنيوي أمر مطلوب وضروري إذ به لا بغيره يستقيم أود الحياة وتستنهض السنن الكونية شدا وجذبا بين أقطاب الأمم قاطبة ، أما الاختلاف في الحق الإلهي المنزل فهو على نوعين : محرم مقبوح ، وسائغ مشروع ، أما المحرم المقبوح فيرجع في الجملة إلى تغيير أصل ديني كلي منزل من عند الله تعالى سواء أكان بزيادة أم نقصان بما يؤدي إلى اختلاف أهل الملة الواحدة فيغدو الدين مغيرا عند البعض لا منزلا ، وعلامة هذه الحالة شدة الاختلاف حول الحق الإلهي السماوي فينقلب التوحد اختلافا والتراحم عذابا فيستسهل عندها إراقة الدماء وهتك الأعراض والتنقيب عن النوايا ، أما الاختلاف المشروع فدائر حول الحق الإلهي المنزل إما في طريق فهمه وتحديد ماهيته على التفصيل أو في سبيل إعماله واقعا بصورة تحقق مرادات الله تعالى على الوجه الأمثل والتي منها جعلنا مختلفين ، لذا عد هذا النوع من الاختلاف رحمة بالأمة لا عذابا ونقمة كسابقه ، ولعل جلّ التراشق الفكري الدائر حاليا لا يعدو كونه من حيث أصله دائرا في فلك الاختلاف السائغ المشروع ، غير أن الأصوات الشاذة التي تعتلي في كثير من الأحيان والمتهمة للآخر في فكره وعقله هي التي تحيل المشروع إلى غير ذلك بجعلها له ذريعة إلى التكهن خلف حدود التجليات الظاهرة ، ونذكر على سبيل المثال ما حدث في الفترة القريبة الماضية من إجماع الجميع على نكارة تلك الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، بيد أن البعض وللأسف الشديد قد استغل تلك الحادثة ليروج رؤاه المسبقة وما يعتقده إزاء وجود مذهب سعودي ما ( ليبرالي – علماني – حداثي ) لا يرى بأسا في تلك الرسوم باعتبارها داخلة في نطاق حرية التعبير ، وهو الأمر الذي لم يكن أبدا سوى في مخيلة الأول ، خصوصا وأن الخلاف الحاصل غاية ما فيه هو مدى جدوى المقاطعة الاقتصادية الجارية من عدمه ثم مناط حجمها لتطال الفاعلين مع غيرهم أم تكتفي بالأولين ، وسمعنا يومها لغة التخوين تتعالى ضجيجا ، ليغدو ذات القوم الذين كانوا يدافعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة مسيئين له من جهة أخرى عبر بعثهم معارك جانبية قديمة باسم الدفاع عن النبي الكريم ، بينما هديه عليه الصلاة والسلام كان مائلا إلى التجميع لا إلى التفريق ، حقيقة لا ينقضي عجبي من فعل أولئك القوم هداهم الله ، والعجيب أن ما نودي به من قبل من سموا باللبراليين هو نفسه ما نادى به الداعية عمرو خالد وآخرون من أضرابه لكننا لم نلحظ ذات الهجوم الذي طال الصحب إياهم مما يجعلنا نقيم استفسارات عدة حول حقيقة المعايير التي يقيمها البعض في حكمه على الآخرين ، والأمر ذاته ينطبق على ما جرى في ندوة الرياض الأولى بينما انتفى حدوثه في الندوة الثانية في إشارة واضحة بأن الأزمة لم تكن أبدا في مبدأ الحوار كلا ، وإنما كانت في أطراف عدة استغلت ذلكم الحوار لأغراض أيدلوجية مسبقة ، وهذا يعكس مدى قابلية المحتربين كافة في تحوير الانفراج النسبي إلى أزمة خانقة ، قد يتجلى فرق ما في أصل المنشأ لا في حتمية المآل ، فقضية الدنمارك مثلا مرت بأزمة فانفراج ثم أزمة ، بينما ندوة الرياض أريد لها أن تحقق انفراجا فاستحالت أزمة! ألم يئن الأوان بعد لئن نلقي جانبا بتلك النعوت البائرة المجانبة لموضوعية الحوار الفكري المستقيم ، متى نظل وعبارات التخوين والتفسيق وطلب الاستقواء بالسلطة الداخلية أو الخارجية هي الحاضرة الفاعلة في جل نقاشاتنا الصحفية المتكاثرة ؟ ما بال أقوام لا تنفك الحدية الأثنية تعصف بهم حتى في أبسط ضروب التعاطي الفكري ؟ لقد دلت الآيات القرآنية على أن حالة التباين والتنوع سنة اجتماعية في الناس قاضية باختلاف الآراء وتباين التوجهات بحيث لو ترك الناس بغير هداية السماء لكان الاختلاف والتنازع شعاراهم لذا نعى القرآن الكريم على الأمم التي نزل فيها حق موحد كيف يتخلفون بعده ؟ إذ إن الحق الإلهي يقتضي اجتماعهم واتحادهم مع بقائهم على تعددهم واختلافهم في آحاد الوقائع ، التعدد الذي هم مفطورون عليه من أصل خلقتهم ، والسؤال الذي يلح في هذا المقام هل يمكن الجمع بين تملّك مفاتيح الفهم للفهم عن الله وتملّك مغاليق الجمع بين البشر ؟ والجواب المؤكد أن من بلغ الثانية لابد وأنه قد أضاع الأولى والعكس صحيح ، إنني لا أشك أبدا في أن رجل دين ما قد نازع الآخرين حريتهم لهو رجل قد انحرف بدينه لوجهة هو موليها تناقض أصوله التي يزعم انتمائه إليها ، وبالمقابل فإن مثقفا ما قد نابذ الآخرين حقوقهم لهو مثقف دعي لا يمت للمعرفة بصلة طبقا للحدود الأبستيمية التي أقامها على نفسه وعلى الآخرين من حوله ، وكلاهما ينطبق عليه قول الإمام الغزالي : « لو سكت الجهلاء لما وقع الخلاف « ، وأعتقد أننا متفقون في أن الجاهل المتزمّل بلبوس الخطاب الديني غرمه بلا ريب أعظم من ذاك الذي تتدثر بلبوس الخطاب المعرفي ، أليس كذلك?. [email protected]