دعا عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي، الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، إلى استيعاب الآخر، إذا أردنا أن نكون أمة إسلامية واحدة، مشددا على ضرورة تجاوز الخلافات في الرأي، وأضاف: لا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة. وقال إنه بدلا من السعي لتذويب ما لا يمكن تذويبه من الفوارق، ينبغي التركيز على استجلاء الثوابت، وضبط الاجتهادات وتسديد المسيرة. وشدد ابن حميد في الجزء الأول من حواره ل«عكاظ» على ضرورة أن يسود بين النخب جو الحوار الرشيد، إذا ما أردنا تقليل الاختلاف والصراع، مشيرا إلى أنه وبدون الممارسة الراشدة سيبقى الحديث عن آدابه وأخلاقياته حديثا نظريا، لافتا إلى أن من تأمل واقع السلف رأى ذلك جليا؛ وأضاف: كانوا يختلفون ويسود بينهم الحوار والمناظرة والجدال بالتي هي أحسن.. فإلى نص الحوار: • بداية نود أن يكون واقع الأمة الإسلامية هو مدخلنا للحديث عن نبض الأمة في شتى أوضاعها، خاصة ونحن نعيش روحانية شهر رمضان المبارك.. كيف تنظرون لواقع الأمة اليوم؟ إن الحديث عن واقع الأمة مع استحضار الشهر وحكمة الله من تشريعه وما له من آثر على النفوس والمجتمعات يجعلنا أكثر تفاؤلا وانطلاقا في نهوض الأمة بقيمها ورجالاتها، لتتحقق بهذا النهوض عمارة الروح والواقع وتنميته الحضارية، التي تقوم على قاعدة الإيمان الذي يستجلب به الأمن في الدنيا والآخرة، ووحدة الصف والكلمة. ويتفق العقلاء على أن الاجتماع والائتلاف مطلب ضروري لا غنى عنه لأمة تريد الفلاح. وقد جاء الشرع بالتأكيد على هذا الأصل ورعايته، ولكن المواقف والأحداث قد تصرف الناس، مما يدعو إلى التأكيد على هذه المعاني والوصية بها. وقد أفرزت الأحداث الأخيرة اختلافا في الآراء والمواقف، وهذا أمر لا بد أن يقع بين البشر، لكن هذا الاختلاف اتسعت شقته، وبدأ يتجاوز قدر الاختلاف في الرأي، وبدا معه أن الحاجة ماسة إلى الوصية والتأكيد على معاني الاجتماع والائتلاف. وقد جاء التأكيد في القرآن الكريم على مراعاة هذا الأصل، ومن ذلك: قوله عزوجل: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون». وقال عز وجل: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين». روى ابن جرير عن الحسن في قوله تعالى: «ولذلك خلقهم» «وأما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم». وقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دعاة لوحدة الصف وجمع الكلمة، قال الإمام البغوي: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة». وقد اختلف الأنبياء من قبل في الرأي، فاختلف موسى وهارون: «قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي». كما اختلف الخضر وموسى، واختلف سليمان وداود: «وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين»، واختلفا عليهما السلام في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في الابن، واختلف آدم وموسى. ولم يكن هذا الخلاف موجبا للفرقة والاختلاف. واختلفت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في شأن قاتل المائة حين مات بين القريتين ولقد تكررت الوصية في السنة بالاعتناء بالاجتماع ووحدة الصف، وتكرر النهي عن التفرق والاختلاف. ومن أراد وحدة الصف وجمع الكلمة فليستوعب تعدد الآراء والاجتهادات، فيما يسع فيه ذلك، وليتجاوز ذلك إلى استيعاب الخلاف في الرأي، ولا يمكن أن يكون الناس نسخة واحدة. وبدلا من السعي لتذويب ما لا يمكن تذويبه من الفوارق ينبغي أن يتركز الأمر على استجلاء الثوابت، وضبط الاجتهادات وتسديد المسيرة. وإن مما يقلل الاختلاف والصراع، أن يسود بين النخب جو الحوار الرشيد وبدون الممارسة الراشدة سيبقى الحديث عن آدابه وأخلاقياته حديثا نظريا. ومن تأمل واقع السلف رأى ذلك جليا؛ فكانوا يختلفون ويسود بينهم الحوار والمناظرة والجدال بالتي هي أحسن. • الناظر إلى الفضائيات العربية، هذه الأيام المباركات من شهر رمضان الكريم، يلحظ زخما إعلاميا منقطع النظير، والذي صنفه كثير من المراقبين على أنه إلهاء للصائمين عن شهر العبادة بمواد فنية ومسابقات متنوعة، ما قولكم؟ أولا ينبغي أن يكون هدف وسائل الإعلام الإعداد السليم، ومساندة البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع، في تكوين شخصيات الأفراد وإعدادهم، وعدم خروجها على وسائل التربية المقصودة والمبرمجة؛ لأن ذلك يحقق الانسجام والتعاون بين وسائل الإعداد، أما إذا كانت وسائل الإعلام تنطلق من منطلقات الترفيه المجرد، والتسلية من أجل قتل الوقت وغير ذلك من الأغراض القصيرة الصغيرة، والتي تكون ضارة وغير مفيدة، فإن كثيرا مما تتقبله بعض النفوس الضعيفة في مجال الترفيه والتسلية يتناقض مع ما تقرره العقيدة السليمة والعقول الراشدة، وثقافة الأمة التي عادة ما يكون إعداد مناهجها في المدارس والجامعات والمعاهد تغذية الناشئة بها وطبع نفوسهم عليها. والواقع أن التناقض بين وسائل إعداد الناشئة في الأمة الواحدة ينجم عنه اهتزاز في القيم وازدواجية في التفكير، وإذا كانت الوسيلة الإعلامية تطالع الجيل في كل يوم بجديد في المقالات الاجتماعية والتحاليل السياسية والخبر والصورة وغيرها في صورة جذابة وإخراج متقن يشد القارئ، فإنه بقدر ما تكون هذه الأخبار صادقة، والمقالات هادفة، والتحاليل الإخبارية تعرض من وجهة نظر صادقة وسليمة، يكون رافد المعرفة وثمر الخبرة في اتجاه سليم وأثره ظاهر النفع في الثراء المعرفي والانسجام الفكري والمتعة الماتعة. كما أن الأمة الواعية هي التي تساند وسائل الإعداد فيها، على إعداد أفرادها إعدادا يتلاءم مع تطلعاتها، ويدفع إلى السعي لبلوغ غاياتها. و«الإعلام المرئي» يأتي في مقدمة وسائل الإعلام وأشدها خطرا وأبعدها أثرا في حياة الناشئة؛ إذ أنه يجمع بين جمال الصورة وحسن الصوت وإتقان الإخراج، في صور متغيرة وجذابة، ويتم إعداد برامجه وفق دراسة واعية للأوقات والمناسبات، وما يناسب كل فئة من فئات المجتمع من الوقت والمادة وطريقة العرض. لهذا فإن الأمة الواعية في إعداد ناشئتها هي التي تستعمل هذه الوسيلة أداة للتربية السليمة والتوجيه السديد. فإذا انحرفت هذه الوسيلة في أية أمة كان ذلك مؤشرا على سوء الإعداد ونذير خطر على الناشئة، وبالتالي ذهاب الريح والاندثار. ولهذا يجب على الأمة أن تكون حارسة لعقيدة أبنائها، عاملة على تكثيف الجهود والوسائل، لإعداد أفرادها وعدم السماح لأية وسيلة بأن تنحرف عن المسار الصحيح، والمنهج القويم، في أية صورة من الصور، سواء كان ذلك في صحيفة أو إذاعة أو تليفزيون أو غيرها. • لكن تلك الفضائيات تلهي الصائمين عن عباداتهم؟ لا أتفق مع هذا التعميم، فوسائل الإعلام والقنوات خاصة فيها المفيد من برامج دينية واجتماعية وتربوية تستهدف الأسر والأطفال وشرائح المجتمع يحسن الإشادة بها وتشجيعها والاستكثار منها حتى تزاحم هذا الفضاء المليء بالغث غير المفيد. • يلاحظ معاناة المسلمين من نكبة أو جرح هنا أو هناك.. فما هو واجبنا تجاه هذه الأحداث والأزمات لا سيما في رمضان؟ لا بد أن يدرك الجميع أن ما يحل بالإنسان في هذه الحياة الدنيا أنه من تقدير الله من خير أو شر، الله لا يقدر شرا محضا كما هو من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة وهذا الأصل العقدي يعزز حسن الظن بالله والتوازن في النظرة لكل ما يحل بالمسلم وغيره من أحداث وابتلاءات، كما يحقق قدرا من الاستقرار النفسي وإزالة الهزيمة النفسية التي تقضي على الأرواح قبل الأبدان؛ لذلك لا بد لكل متأمل فيما يباشره في واقعه من نوازل ومتغيرات وابتلاءات أن يرقب لطف الله وكمال تقديره وبالغ حكمته. فالأيام لا تزال تلد الجديد من خير وشر، ونفع وضر، ومحن ومنح يختبر بها العالمون «ليعلم الله من يخافه بالغيب» «وليمحص الله الذين آمنوا». ومخافة الله بالغيب تعني الالتزام بطاعته طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه؛ وهذا لا يكون إلا بالإذعان لأحكامه الشرعية الدينية، والإيمان بأحكامه القدرية الكونية. إن هذا الالتزام دعت إليه الرسالات كلها تحقيقا للمعنى الشامل للتوحيد المتضمن إفراد الله تعالى بالطاعة تحقيقا لعبادته والإيمان المطلق بربوبيته وألوهيته وقضائه وقدره، وهذا هو المعنى الذي ذكر به يوسف عليه السلام: «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون»؛ فالدين القيم يتضمن إفراد الله تعالى بالحكم شرعا وقدرا، وقد صرح بهذا المعنى قبل يوسف أبوه يعقوب عليهما السلام فقال: «إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون»، وهو المعنى نفسه الذي أمر الله تعالى خير الأنبياء وسيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلنه في العالمين بأفصح لسان وأصرح بيان: «قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين * قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين». إذن إن ذلك معنى عظيم، وهو أن أيام الله هي تفسير لسنن الله؛ فتلك السنن ليست معاني مجردة أو افتراضات محضة، بل هي حكم وتطبيق، ودرس وشرح، وعظة وعبرة، ولكن ها هنا أيضا معنى أعظم، يحتاج إلى تأمل وتدبر وهو أن: (أيام الله) التي تفسر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضا ومستقبلة؛ فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا؛ فهي تجري في الحاضر المحيط بنا والمستقبل البعيد منا. • إذن هذا يدعونا لنسأل عن كيفية الاستفادة من كل ذلك؟ إذا علمنا أن كل ما سبق يؤكد الفائدة العظمى والأهمية القصوى للنظر في تلك السنن واستحضار الحقائق المحتفى بها؛ لأنها حكم الله الذي لا يخالف ولا يستطيع الخروج عنه؛ فلئن كان بإمكان العصاة أن يخالفوا حكم الله الشرعي؛ فإن أحدا من الخلق لا يستطيع الخروج قيد أنملة عن حكمه القدري، وتجيء (أيام الله) بما فيها من محن أو منح لتثبت ذلك. وما أحوج الأمة في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن تذكر بأيام الله، وأن تبصر بسنن الله الكونية القدرية مع إرشادها إلى سننه الدينية الشرعية؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، ولا يثبت إلا من ثبته الله، «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء». إن الآية نفسها تشير إلى عدد من الأحكام القدرية والسنن الإلهية؛ فهي تفيد أن الله تعالى قضى قدرا بأنه لا يثبت أمام فتن الدنيا والآخرة إلا من يثبته الله، وتثبيت الله إنما يكون لمن هداه إلى كلمة لا إله إلا الله بمعناها الشامل المقتضي إفراده سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء؛ فمن أحب الله وحده، ورجا الله وحده، ولم يخف إلا من الله وحده ولم يرج سواه، فذلكم الثابت بتثبيت الله. والآية أيضا تفيد أن الثبات يهتز عمن أخل بذلك فظلم نفسه بمحبة غير الله على وجه التعبد، أو صرف رجاءه أو خوفه لغير الله «ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء». إن الزمان كلما تقارب كان فعل الفتن في الناس عجيبا؛ لأنها تتوارد وتتكاثر حتى يرقق بعضها بعضا، وتتابع بالهلاك على أقوام ما كانوا يظنون أو يظن الناس فيهم أنهم يفتنون، حيث تجيء الفتنة، فيقول المؤمن كما جاء في الحديث: «هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه»، ولا يزال الأمر في تصاعد وتزايد حتى تتغير الأحوال من تنقل بين فتنة وفتنة إلى تقلب بين كفر وإيمان «والعياذ بالله»؛ حيث «يصبح الرجل مؤمنا أو يمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا». فالناس مواقف في أزمنة الشدائد، ومواقفهم بحسب معادنهم؛ فالمعادن الأصيلة تجليها نار الاختبار، أما الرخيصة فتنفى مع الخبث. إن كل موقف من المواقف له حكم شرعي، وعلى كل موقف ديني ينبني حكم قدري كوني في الدنيا وحكم جزائي في الآخرة؛ ذلك أن الأحكام الجزائية في الآخرة ثوابا أو عقابا هي امتداد للأحكام الكونية والسنن الإلهية في الدنيا، وكلاهما يبنى على الطاعة أو العصيان. ومع كل هذه المسلمات واليقينيات مما يفقهه المسلم ويؤمن به ويأخذ به، فإن عليه النظر في الأسباب وعدم إغفالها وإهمالها، فالمسلم مأمور بالأخذ بالأسباب والاستعداد بالعدة حسب كل حالة أو نازلة وحسب المقتضيات والأحداث والمتغيرات.