د. عبدالرحمن الحبيب - الجزيرة دخلت المقهى، جلستُ، فتحتُ (اللابتوب).. قبل عشر سنوات كنت سأجلس معي قلمي وأوراقي، أركّز في كتابتي حيناً والتفتُ إلى الناس حولي حيناً آخر. في تلك الأيام الخوالي كان انتباهي يتوجّه نحو المحيط الخارجي.. قد ألاقي أحداً أعرفه أو أود التعرف إليه.. أشاهد الجميع، ويشاهدني البعض.. ربما فجأة يأتي غريب لطاولتي، ثوانٍ من الغموض المبهم قبل أن تصبح علاقتنا من نوع أو آخر. أما الآن، فها أنا ذا جالس في المستقبل - أقصد في الحاضر - أمام اللابتوب، مثلما يفعل كل من حولي تقريباً. ها هم أمام الأجهزة الرمادية، بصعوبة أرى الوجوه خلف تلك الشاشات، ولا أحد يبدو أنه يمارس أي شيء اجتماعي أو سيكلوجي يثير انتباهي. إنهم منحنون تجاه شاشاتهم نحو اهتماماتهم الذاتية. وكذلك أنا تركيزي منصب نحو ذاتي: أفتح الإيميلات المرسلة لي، أكتب إيميلاً أعبِّر به عن رغبات تخصني، أتفحص جوجل باحثاً عن معلومات تهمني.. قبل عشر سنوات كان المقهى يزخر بالمحادثات والتجارب الاجتماعية، بينما الآن يتقلّص الحيّز الاجتماعي إلى نقاط معزولة من المتطلّبات الذاتية للأنا، فكلنا منغلقون في أطوار منفصلة نحو أعماقنا الداخلية. كانت تلك مقتطفات من كتاب ظهر مؤخراً للناقد الثقافي الأمريكي والمختص في الإعلام الإلكتروني، الكاتب لي سيجل (Lee Siegel) بعنوان (ضد الميكنة) (Against the Machine) وعنوان فرعي (أن تصبح إنساناً في عصر الغوغائية الإلكترونية). الكتاب الذي قالت عنه نيويورك تايمز الأمريكية: (إنه واحد من أفصح وألذع لسان في البلد في النقد الثقافي). ووصفته الجاردين البريطانية بأنه (وجهة نظر ملحمية). والكتاب يتناول كيف أنّ الإنترنت يعيد تشكيل أفكارنا عن أنفسنا والآخرين والعالم المحيط حولنا؛ وكيف يعمل الإنترنت على تغيير الثقافة والمجتمع والنفسية؛ لذا فهو يستحق أن نمضي في رحلة معه.. دخل الإنترنت عالمنا خلسة من خلف ستارة التفوّق التكنولوجي مخبئاً خطره الجسيم عن أعين النقد.. وظهر الإنترنت كأعجوبة تواصل اجتماعي وشخصي، إنه معجزة التواصل المريح الذي أحدث انقلاباً في حياتنا الاجتماعية والفردية.. ولكن له جانب تدميري! إنّ دخول الإنترنت بطريقه عشوائية تم تصويره كشيء حتمي. أما النظرة النقدية التي تتفحّص عيوبه فقد تم السكوت عنها أو تجاهلها، أو وُصِمت كتعبير عن أعظم المحرمات الأمريكية وهي النظرة السلبية أو الخوف من التغيير. فخطاب الديمقراطية وحرية الاختيار وحق الاطلاع على المعلومات غطَّت على اكتشاف الجشع وعمى المصالح الشخصية التي تقبع خلف أكثر ما تطور إليه الإنترنت. من الغباء إنكار الفوائد العظيمة التي نجنيها من الإنترنت، فهو أكبر مرجع مريح للمعلومات، ويمكنك عبره مثلاً الحصول على منزل بالمواصفات التي تبحث عنها، أو الحصول على دواء، أو تذكرة سفر .. الخ. لا أحد يمكنه إنكار قدرة الإنترنت على جعل الحياة أسهل أسرع ألطف وأعلى كفاءة وفعالية وأكثر متعة.. يقال إنّ الإنترنت عمل ثورة توازي ثورة الصحافة المطبوعة، ولكنه يختلف تماماً عن الطباعة. انتشار المعرفة عبر الكتب لا علاقة له بشراء الكتب عبر الإنترنت. انتشار المعرفة بين الناس الذين تنقصهم المعرفة لا علاقة لها بزيادة الإنترنت لسرعة انتشار المعلومات التي هي بالأصل موجودة ومتاحة. كما أنّ إتاحة الفرصة لكل فرد أن يوصل صوته عبر الإنترنت، ليس فقط يختلف تماماً عن إتاحة الفرصة لسماع صوت الأكثر إبداعاً أو ثقافة أو ابتكاراً، بل يمكنه إبعاد صوت أولئك الأكثر إبداعاً وثقافة وابتكاراً. نعم الإنترنت عمل ثورة، ولكن أي نوع من الثورة؟ إنه كاختراع يستجيب لقرن من التغيّر التكنولوجي ولظروفنا المعاصرة من السرعة المحمومة وقطع التواصل والفردانية والتشظي الاجتماعي.. وهو أيضاً، يستجيب لقرن من التغيّر الاجتماعي والنفسي. خلال هذا القرن كانت الفردانية تنمو تدريجياً صاعدة على المجتمع. وإرضاء رغباتنا الخاصة أصبح يعلو على توازن علاقاتنا مع الآخرين.. إنه قرن فرويد، الوجودية الذاتية، العلاج الذاتي، الاعتراف الذاتي، الأداء الذاتي، عصر السيرة الذاتية، جيل الأنا، ثقافة النرجسية.. الحياة أصبحت أكثر ذهانية، أكثر داخلية، أكثر توجُّهاً لإرضاء الرغبة الذاتية. انهيار العائلة وطغيان معيشة الناس فرادى هي مظاهر هذا التوجُّه، وكذلك تراجيديا تكرار مظاهر العنف والقتل الجماعي في الساحات العامة. أصبحنا نعيش أكثر داخل أدمغتنا.. وبالنسبة للبعض أصبحت الحقيقة توجد فقط داخل رؤوسهم. هذه ليست إدانة لطريقة عيشنا، فالتضامن الاجتماعي بشكله الإيديولوجي المؤذي والقبائلي المدمّر أنتجا بؤساً أكثر من الفردانية المتطرّفة. لكن هناك الكثير مما يقال عن انعزالنا الفردي الذي يتم تبريره عبر حقنا الديمقراطي في الاطلاع على المعلومات والشعور بالمتعة. فالإنترنت هو البيئة الاجتماعية الأولى التي تدعم الحاجة للعزلة والفردانية؛ فهو استجابة لعقود من التطوّر التكنولوجي الحتمي. ولكن إذا كان الإنترنت حتمياً، فإنّ طبيعته ليست حتمية.. فالقيم هي ما تجعل التكنولوجيا نافعة أو ضارة. نحن نتسوّق، نلعب، نعمل، نحب، نبحث عن المعلومات، نتصّل ببعضنا وبالعالم عبر الإنترنت. أصبحنا نقضي وقتاً وحدنا أطول مما مضى. ومع ذلك فإنّ الناس لا يناقشون جدِّياً تأثيرات هذه الحالة الجديدة المروّعة. طبعاً هناك تحذيرات عن مخاطر الإنترنت بخصوص سرقة المعلومات الشخصية، وإدمان الإنترنت، أو الإساءات الجنسية خاصة استغلال الأطفال. هذه مخاطر جسيمة، ولكنها واضحة للعيان، وسيتم في النهاية وضع إجراءات تشريعية ومحاكم ومؤسسات للسيطرة عليها. إنما ما لا يمكن السيطرة عليه بهذه الإجراءات هو النمط السلوكي الذي يخلقه الإنترنت. فالأسئلة الأساسية عن العادات الجديدة التي يخلقها الإنترنت لم تطرح بعد.. انتقد الإنترنت ستتهم بأنك انفعالي أو ضد الديمقراطية، فالتمجيد المبالغ فيه للإنترنت جعل من العسير إجراء عمل نقد جوهري فعلي له. فالرهان الحالي ليس السؤال عن الإعلام بل عن تأثير الشبكة العنكبوتية على إنسانيتنا. مرة قال جوته إنّ طبيعة الإنسان لا تتغيّر أبداً.. ولكن التكنولوجيا تحفز بعض السمات البشرية وتخمد بعضها الآخر. فأيّ القيم التي تحفزها أو تخمدها؟ تيارات إنترنتية من: المقالات، الكتب، المؤتمرات، النقاشات الشعبية، أثرت في تحسين جودة الإعلام.. لقد اخترق الإنترنت حياتنا بعمق أكثر من أية وسيلة معرفية أخرى، لذا هو يستحق أن يجابه بأسئلة جوهرية كبرى. يحاول الكتاب مناقشة الأسئلة الكبرى.. ما هي المصالح التي تخدم الإنترنت؟ ما هي القيم التي تشكله؟ من هم الذين يسيطرون عليه؟ كيف يؤثر في الحياة الثقافية والاجتماعية؟ كيف يتعلّم الناس تقديم أنفسهم عبر النت؟ كيف يتعلمون التواصل مع الآخرين عبره؟ ما هو الثمن النفسي والعاطفي والاجتماعي للعزلة التكنولوجية؟ هل الأصوات الجديدة تم تقويتها، أم أنّ الأصوات المعارضة الفعلية تم إغراقها باسم حرية التعبير؟ هل تم دعم الديمقراطية أم أنّ القيم الديمقراطية تم تحريفها عبر إساءة استخدام المبادئ الديمقراطية؟ .. هذه الأسئلة ستناقشها المقالة القادمة..