لا بد أن العيش باستخدام وجوه أو أقنعة متعددة متعب جدّاً، وأن تقمص عدد من الشخصيات المتباينة في سماتها يسبب الاضطراب في الشخصية (إلا في مجال الدراما والمسرح!). وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه ممارسات شائعة في البلدان العربية من المحيط إلى الخليج! فلا بأس بالمجاملة اللطيفة أو "الدبلوماسية" المقبولة، ولكن هناك الكثير من الناس يعيش حياته بتقمص عدد من الشخصيات المتباينة والمختلفة تماماً. فإذا جاء مع المحافظين صار في مقدمة المهتمين بالمحافظة على القيم والتراث وأكثرهم حماساً لهذا المفهوم، وإذا صار مع الليبراليين أصبح ينادي بالتحرر من القيود التي يُعتقد أنها تعوق التقدم والتطور، بل يوجه اللوم والانتقاد لمن يقف عائقاً أمام تحقيق ذلك. وإذا حضر مجالس رجال الدين، أظهر الحرص على الدين وضرورة المحافظة عليه كمنهاج أمثل للحياة السعيدة. وإذا جمعته الصدفة بفئات أخرى لا يلبث أن يتبنى سلوكياتهم التي قد تتناقض مع قيم المجتمع وتعاليم الدين. والبعض منهم ينتقد الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشدة في أوقات ومجالس معينة، ويمتدح الوضع نفسه في أماكن أخرى. فهل هذه السلوكيات أسلوب من أساليب المرونة المقبولة؟ أم سبيل من سبل اللباقة والتعايش بين فئات المجتمع المختلفة؟! هل هي رمز من رموز الرجولة والوعي، من منطلق المثل الشعبي في إحدى الدول العربية المجاورة الذي يقول: "الكذب ملح الرجال"؟! وهل هذه السلوكيات ضرب من ضروب النفاق وضعف الأمانة؟ ويا تُرى، هل هذه ظاهرة صحية أم هي ظاهرة مرضية؟! وما جذور أو أسباب ظهور هذه الظاهرة؟ هل هي نتاج البيئة الاجتماعية العربية فقط؟ أم أنها مرتبطة بخطأ في التربية الأسرية أو التعليم العام؟ وأهم من ذلك، ما مدى تأثيرها في الفرد والمجتمع؟! وما طبيعة هذا التأثير؟ أليس هذا النمط من السلوك يؤدي إلى النفاق الاجتماعي، ويعطل المصالح العامة أو يضر بها؟ وأخيراً، هل هذه الظاهرة تُعد من خصوصيات المجتمعات العربية أم هي ظاهرة شائعة في مجتمعات أخرى؟! ولأن "فهم السؤال نصف الإجابة"، فقد آثرت في هذه المقالة طرح العديد من التساؤلات الهادفة. ولا شك أن الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب دراسات في علوم النفس والاجتماع والإدارة والتاريخ، نعم لا بد أن نفهم جذور هذه المشكلة. ولكن من المستبعد أن تكون ظاهرة صحية أو إيجابية في آثارها على المجتمع، وفي كل الأحوال، يصعب قبولها كسمة من سمات التقدم!