تتشكل الصورة الشعرية لدى عبدالله البردوني من بنية لغوية تتشابك فيها العديد من الاعتبارات المضمونية والشكلية التي تستمد مفردتها - وجملتها - من السحنة اليمنية بما تنطوي عليه من إشارات بيئية يمكن التقاطها، كخصائص، في الشعر اليمني الحديث على نحو عام. ثمة ما يشي بيمنية المفردة، وبيئية الجملة، وصرامة الإشارية الواقعية المتصلة جذورها بما هو عابر في اليومي الوطني سياسياً واجتماعياً، وما هو متجذر في الهاجس الصعد الحياتية ذاتها.. والبردوني، القادم من تفاصيل ثلاث مراحل سياسية تعاقبت على تاريخ اليمن الحديث، شاعر تكاثفت في لغته الشعرية السمات اليمنية ذاتها، التي اصطبغ بها الواقع بمفرداته الملهمة.. ولذلك بُنيت صوره الشعرية على المضامين الواقعية التي تتخذ لتشكيلها تعبيرات بيئية صميمة، وتسجل صيغ الاتصال الهرموني بالخلفية الاجتماعية والثقافية و - بالضرورة - السياسية: إن همَتْ أحرفي دماً فلأني يمنيُّ المداد.. قلبي دواتي أمضغ القاتَ كي أظل حزيناً والقوافي تهمي أسى غير قاتي وإذا كان ذلك مفهوماً في إطار فهم التأثيرات البيئية في أي نتاج إبداعي، وطبيعياً تبعاً لطبيعة علاقة شخصية أي مبدع بمحيطه وبيئته، فإن لدى البردوني حالة إبداعية خاصة تراصت مفرداتها حد التطاول واجتراح ما هو منهيُّ عنه - وليس مسكوتاً عنه فحسب - في المواضعات الاجتماعية والصيغ المتآلفة.. وإذا كان متوقعاً من الشاعر السياسي أن يتوسل الصيغ الساخطة، في بعض ما يكشف عنه من مواقف وما يُعبّر من رؤى حيال ما يجري وما هو متوقع، فإن البردوني تخطى القالب الخطابي الذي يضع.. «الآخر» في محيط الرؤية الشعرية، مرتداً على «الذات»، ومتوحداً مع ذلك «الآخر» الذي تحوّل، في أضاميم لغة على درجة عالية من الشفافية، إلى «ذات» تتعرض لوابل من السياط التي تخترق الداخل، وتفجّر رؤيتها الفاضحة لكل شيء. وفي هذه المستويات من الرهان التعبيري يتوحد البردوني مع «لص تحت الأمطار».. ويبحث معه عن نُهزة ممكنة للسطو والاستيلاء على ما يسدّ الرمق، ويستطلعُ، برؤية اللص وحرمان الجائع وضعف المحتال، شوارع المدينة، وبيوتها وحالات فرحها، وإحباطاتها الجاثمة على «اللص» وواقع المدينة معاً..! من أين أمرّ..؟ هنا وكرٌ ملعونٌ رادته ألعنْ وخصوصياتٌ واقفةٌ تهذي كالمذياع الألكنْ وتقل براميلاً تسطو وسط الأضواء ولا تُسجن أيساراً يا «صنعا» أمضى أم أنتهجُ الدربَ الأيمن هل هذا الأحسنُ؟ أم هذا يبدو لا شيءَ هنا أحسن..! شهادات مجنونة اهتم البردوني بحالات التقمص كثيراً.. وفي الشعر العربي الحديث وجد التقمص لنفسه موقعاً عند عدد من الشعراء.. فالسيّاب كان يتقمص شخصيات حبيباته ويستنطقهن استنطاقاً.. ونزار قباني لم يتحرج من تقمص حالات نسائية حساسة، في «يوميات امرأة لا مبالية» و«لوليتا» و«حُبلى».. وغيرها.. إلا أن لدى البردوني شطحاً بعيداً في مشاريع التقمص الحرجة إذا صح الوصف.. السيّاب تقمص حبيباته في سعيه إلى تعبيرات لم تخرج غالباً عن المضامين الذاتية.. ونزار فقد كان على مستوى من الشغب واجه به ثقافة المجتمع وقوانينه.. أما البردوني فقد كانت واقعيته شهادات مجنونة ضد صنوف سياسية واجتماعية.. وفي تقنيات التقمص قدم شخوصاً منكوبة ومكسورة وجائعة، لينفذ عبرها إلى حقائق خاصة على المستوى الواقعي والإبداعي في آن واحد. وكما كان «لص تحت الأمطار» مشرداً وحائراً، ومنتهياً إلى يأس مشوب بطموحات لا طائل لها، كانت «امرأة الفقيد»، و«ابن فلانة» و«شاعر.. ووطنه في الغربة» و«ثرثرات محموم».. وغيرها شهادات من داخل الشخصية المنكسرة في ذاتية المهزوم أمام جنزير الواقع.. إلا أن اتساع الرؤية الواقعية يذهب قاصياً في اختيار الشخصية، واستكناه صيرورتها ومصيرها، واستنطاق الإشارات السياسية بالتباساتها المتشابكة.. ف «ابن فلانة»، ذلك الشاب الذي أنجبته أم «سيئة» يجد ذاته في تصارع يومي مع واقعه الذي لا يد له فيه: كيف أحكي.. فلاناً ابن فلان ورفاقي يدعونني ابن فلانه إن رأوني أبدو رصيناً أشاروا علّمتهُ تلك البتول الرصانه..! لا تلح لي يا اسمي فإن جبانٌ حين تبدو بفضل تلك الجبانه ومن حالة التصارع هذه تلوح إيحاءات الإسقاط المتجاسرة على تقديم رؤية تشريحية للواقع الأكثر اتساعاً وتخاذلاً، وأشدّ تعالقاً بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، في مساحة تعبيرية يمكن وضعها ونصوصاً أخرى في الإشارات التشريحية ذاتها التي لم تترك مجالاً إلا لهذا النحو من الاستنطاق.. ألم يقدّم البردوني مجموعته «السفر إلى الأيام الخضر» لها.. اذكّرها مرآتها عرق مأرب وأنّ لها فوق الجيوبَ جباها وان اسمها بنت الملوك وأنها تبيع بأسواق الرقيق أباها وهي، نفسها، الملتبسة ب «غرام الذئاب»: وهي ليست شاة ولكن لماذا تتوالى هذي الهدايا إليها..؟ مقلتاها أظمأ من الرمل، ماذا يرشف المرتوون من مقلتيها؟ وعلى المستوى الفردي كانت القصيدة المتقمصة تشريحاً للحالة السائدة: كيف أقضي ديني وليس ببيتي غير بيتي ومعزف غير شادي؟ والذي كان والدي صار طفلي من أداري.. عناده؟ أم عنادي؟ ولأني مجوّف مثل غيري بعت وجهي لوجه مائي وزادي اليساري رزق اليميني وقالوا أجودُ الخبز من طحين التعادي..! والمؤدّى، هو أن البردوني اعتنى بتقنيات التقمص في مشروعه الشعري، تواصلاً مع قضيته التي لها سخّر امكانياته الجمالية مستفيداً من الشكل التناظري في القصيدة العربية.. وهو شكّل عبأه شاعر اليمن بأنماط أسلوبية متغايرة جسدت المواقف تبنتها جسدتها رؤيته للواقع بما فيه من تشابك وتناحر.. وتعاقب أيضاً..! المؤدى الأهم، على مستوى التجربة الإبداعية، هو تلك الخاصية الأسلوبية التي كانت الصورة مهادها ومفادها.. فالصورة البردونية تفيد من مستويات التعبير التقليدية والحديثة في صياغة البنية اللغوية.. وإلى جانب مستوى التشبيه البلاغي هناك الصورة الرومانسية، والرؤية الرمزية، وأيضاً المشهد السيريالي..! وما يربط بين هذه المستويات الأربعة، في الصورة البردونية، هو ذلك الحس البصري الذي أفاض على المضمون شكلاً لغوياً خلاقاً ومفاجئاً من إنسان فقد بصره وهو في السادسة من عمره، ولم يتسن له تسجيل خبرة بصرية كافية لإنتاج تصويراته الشعرية على هذا النحو الخارق..! (يتبع)