كثرت الأصوات المطالبة بتبني أسلوب الحوار ولا شيئ غير الحوار لمعالجة الصراعات والتشنجات الفكرية الحادة والاختلالات الثقافية التي طفت على السطح مؤخرا بسبب التنامي المتسارع والمفتوح لمساحات التعبير وحرية الرأي في الشبكات الاجتماعية وأهمها تويتر.. حتى صرخ أحد الكتاب مناديا: الحوار.. الحوار.. الحوار. جاء(تويتر) ليتسيد الساحة بلا منازع، ضرب وخلط المصالح ببعضها وكشف الأصدقاء من الأعداء، باعد بين القريبين وقرب بين البعيدين، يوجه الرأي العام ويغير القناعات، يكشف المستور ويطير بالإشاعات، باتت التغريدة الواحدة عنوانا لصحف وأخبار الغد، تتطلب الرد لدحض الإشاعات وتتطلب الرد للهجوم أو المساندة والريتويت، تشعل البرامج الحوارية وتسخن المجالس العامة، تخرج الناس من جحورهم الباردة إلى شبكتها الملتهبة، وتستنطق الأراجوزاتي من خلف الستار. مضى عقد من الزمان على إنطلاق أول حوار فكري وطني جمع مختلف التيارات الفكرية والمذاهب الدينية عام 2003م في الرياض، وما تبعه من تأسيس لمركز وطني شامل يحتضن هذا الحوار الوليد بهدف إشاعة ثقافة الحوار وجعلها سمة بارزة في المجتمع، ثم بعد ذلك يعقد الحوار بين المذاهب الدينية والفرق المتناحرة في مكةالمكرمة، ثم يكبر الحوار وينطلق خارجيا ويؤسس مركزا عالميا للحوار بين الأديان والحضارات المتناحرة في النمسا، وبعد هذا كله البعض يعتقد أن طاولة الحوار الوطني ما زالت شبه غائبة عن أدبيات وأهداف الحوار نفسه، باتت عاجزة تماما عن جمع هؤلاء المتناحرين المختلفين وغير قادرة على طرح أو مناقشة القضايا التي يتنازعون حولها، حتى ظهرت أصواتا تستنجد بالحوار وكأنه لم يوجد من قبل. فخلال عشر سنوات منذ أول حوار وطني عقدت مئات المؤتمرات والندوات المتخصصة والدورات التدريبية وطبعت آلاف الكتب ووزعت آلاف المنشورات وألقيت مئات المحاضرات في الجامعات والأندية الأدبية والرياضية والتجمعات من أجل نشر وتكريس هذا الحوار، إلا أن شبكة تويتر وحدها استطاعت أن تكشف عن العجز والتخلف المؤسسي والفكري والمجتمعي في وسائل وقواعد الحوار البسيطة وكأنك يا أبو زيد ما غزيت! إخفاق المجتمع في استيعاب ثقافة الحوار بات جليا، فقد جاء الحوار للتقريب بين المختلفين فكريا ولوأد الصراع الذي كان شائعا في منتديات الإنترنت وأهمها الساحات العربية، إلا أن الساحات العربية ودعتنا وغادرت، ثم جاءت الشبكات الاجتماعية، وما زال الأمر سيان: فلا صراع خفت حدته، ولا حوار غير تقليدي استطاع جمع المختلفين الحقيقيين بدون قيود أو سقف محدد.. قد يكون غياب الحوار الحقيقي بسبب غياب الهوية التي كانت مشكلة الساحات العربية، ولكن تويتر تميز كثيرا بوضوح الهوية وزيادة مساحة الحرية أضعافا كثيرة، إلا أن الحوار ابتعد أكثر بالرغم من وضوح الهوية وصراحة المقصد!! فهل فشلت مؤسسة الحوار في بناء وقيادة الحوار الحقيقي؟، هل فشلت في فهم المجتمع وثقافته وتركيبته وما هي قضاياه الفكرية التي تأسس الحوار من أجلها وقام على أساسها؟ هل فشلت مؤسسة الحوار في إدراك مراحل الانتقال ما بين هاتين الحقبتين الزمنيتين المتمثلتان بالمنتديات الإلكترونية والشبكات الاجتماعية؟ ثم احتوائها!...المراقب يعرف تماما أنها قصرت كثيرا في التأسيس لبيئة معاصرة وجدية للحوار الفكري الذي كان مأمولا منها: لأنها انشغلت في غيره من اللقاءات الترفيهية التي يغلب عليها طابع الرسمية والتكلف والملل وتبادل الكلمات الرتيبة بين المشاركين، فلا يستطيع المتحاور من الرد على متحاور آخر إلا بعد ثلاث ساعات أو يوم كامل، وبهذه الطريقة يُقتل أي حوار وبدون عناء شحذ السكين.. في تويتر اختلف الكثير إلى حد التكفير والمحاكمات والقذف وتبادل السب والشتم والطعن بالنوايا، تغريدات كثيرة ومشهورة في السنتين الماضيتين قادت إلى ذلك وأكثر، حتى أن هذه التغريدات المدوية أشركت آخرين من خارج التويتر في النزاع، فصحيفة ورقية عريقة لم تفتح صفحاتها يوما للحوار تهجمت على مغرد انتقد نهجها الصحفي وطعنت في نيته وقذفته بأبشع الاتهامات بدلا من الحوار معه، وقناة تلفزيونة لم تحاور مجتمعها حول عقيدته وقيمه التي يريدها لأطفاله طفقت مسعورة بلا هدى تنبش الماضي بسبب تغريدة قبحت إعلامها وكشفت زيف رسالتها، ومجتمع كفًر وهاجم مثقفا بسبب تغريدة، ولم يسأله عن مراده أو يعطيه الفرصة للتبرير وتصحيح عبارته أو إعادة صياغتها. تغريدات كثيرة تأتي من مثقفين وكتاب ودعاة وصحفيين وعامة تشغل الصراع كل ساعة، فلا حديث بين اثنين أو في مجلس إلا وكان تويتر له النصيب الأكبر من الحديث والاختلاف والصراع أيضا، هل هذا المستوى المتدني جدا في ثقافة الحوار والتفكير سببه أن هؤلاء لم يجدوا الفرصة للجلوس معا والتحاور بهدوء وبدون مقاطعات من المتابعين الجهال الذي لا يملكون شيئا غير تأجيج الصراع، هل سببه أنهم لم يجدوا أي وسيلة وقناة تواصل صحفية أو تلفزيوينة فيما بينهم غير التقاذف والجدال عبر 140 حرفا لا تكفي حتى لتوضيح موقف ورأي فكري بصورة سليمة ناهيك عن الإفتاء وتحليل وتفسير النص القرآني أو الحديث، هل مثل هذه القضايا التي تشغل المجتمع بين وقت آخر ممنوعة على طاولة الحوار الوطني الذي يدعو ويجمع من المتفقين أكثر مما يجمع من المختلفين.. فبالتأكيد سيأتي الجميع إلى طاولة الحوار متفقين على تدني مستوى الخدمات الصحية أو نقص فرص العمل فأي حوار منتج يجمع متفقين لا مختلفين. في تويتر الكثير يتبادلون الطعن بالنوايا ويصرفون الأنظار عن نقاش الموضوع الأصلي ولا يعطون أي فرصة للنقاش والتحاور حوله، والمشكلة أنهم يركزن فقط على نوايا صاحبه.. يتقاذفون الاتهامات بدون أي جهد يذكر لتحليل الموضوع من أجل دحضه والرد عليه بالدليل أو موافقته والمضي قدما في تصحيح الخلل.. إن تعذر الطعن في النية ذهب المخالفون إلى الماضي لنبشه واستدعائه ومحاولة إيجاد أي شيء يقلل من الشخص وليس له علاقة بالموضوع، بينما تحليل ومناقشة الموضوع والفكرة كان أجدى وأقرب من أي ماضي.. فمن أبسط قواعد الحوار هو الحوار حول الموضوع والفكرة وليس الشخص، بينما في تويتر بات الشخص هو مصدر الحوار وثرائه وليس موضوعه ورأيه: وهنا حتما سيقود أي حوار إلى أقصى درجات الحضيض الفكري. صحفيون وإعلاميون كانت مهمتهم التقصي عن أي موضوع والتحقق من صحته وسؤال المجتمع المعني حوله، إلا أنهم انجرفوا بعيدا مسعورين يهاجمون صاحب الموضوع ويطعنون في نيته ونسوا وظيفيتهم الإنسانية الأساسية وهي قيادة المجتمع بحكمة نحو الحقيقة لإخماد الصراع وليس صب مزيد من الزيت.. ومما زاد من تعقيد الحوار في تويتر هو اشتراك جميع الناس في هذا الحوار الافتراضي من رجال ونساء، صغار وكبار، مثقفون وغير مثقفين، أكاديمون وعمال، طلاب ومدرسون، نخب وعامة، أذكياء وأغبياء، حيث لا لجان ولا دعوات رسمية للمشاركة بل الباب مفتوح للجميع وبدون أي عناء أو تكلف، الأمر الذي لم يكن معمولا به في مؤتمرات وندوات الحوار الوطني والذي دائما ما يُتهم بإشراك النخب والأكاديميين فقط على حساب العامة الذين وجدوا في التويتر حوارا حيا وعشوائيا يغني عن أي مؤتمر أو ندوة يكسوها التكلف والتصنع والحذر، فهل كانت مؤسسة الحوار محقة في تسييس الحوار وعدم التركيز على العامة الذين لا يقدرون أحدا أيا كان ولا يحترمون من يخالفهم في تويتر ويطرحون رأيهم العقيم في مناسبة وغير مناسبة. فُتحت أبوابا كثيرة للحوار الداخلي والخارجي للحوارات الوطنية ولحوار الحضارات والثقافات والأديان والمذاهب من أجل الرقي بالإنسان وبعقله ووقته وصورة مجتمعه وثقافته، إلا أن شبكة تويتر جاءت لتعري هذا الإنسان وطريقة تحاوره البشعة التي بات المجتمع الحديث يقتات عليها. فهل وصلنا لمرحلة يكون فيها اعتزال هذا الحوار المسخ في تويتر أحوط لديننا ولوحدتنا الوطنية؟ كما اعتزله بعض مثقفينا وعلمائنا!! (حبيب عبدالله)