ربما يتذكر بعضكم ما جرى في محاكمة أو جي سيمبسون، والتهويل الذي واكب تلك المحاكمة، حتى تفوقت في اهتمام وسائل الإعلام بها على محاكمات نورنبرج لجرائم حروب النازيين، أو ما سمي بمحاكمات القرن في بعض قضايا محكمة العدل الدولية. ومن يبحث عن الرابط المشترك بين حالة سيمبسون والحالة التي نتحدث عنها اليوم، وهي محاكمة زيمرمن، سيجد أنه حالة الشك في الدوافع العنصرية في كلتا الحالتين: لكن بشكل معكوس في النتيجة. من تابع القنوات الأمريكية في شهر يوليو الماضي، يجد أن هذه القضية أصبحت - أو أريد لها أن تصبح - في مركز اهتمام الأمريكيين بالدرجة الأولى. فقد صار النقل من مقر المحكمة مباشراً، ولساعات طويلة، ربما يتخللها فقط اعلانات، وبعض النشرات الإخبارية في السي إن إن (الأمريكية وليست الانترناشنال). وتجرى في أغلب تلك القنوات مؤتمرات صحفية مباشرة لمحامي زيمرمن، ولقاءات مع بعض المحللين للتعليق على أحداث المحكمة في اليوم المنصرم، وتوقعاتهم في اليوم التالي؛ حولوها فعلاً إلى دراما هوليودية كاملة العناصر. كان تركيز محامي المتهم بالدرجة الأولى على إثبات أن القاتل (وهو أبيض البشرة) كان في وضع الدفاع عن النفس، عندما هاجمه المقتول (وهو أسود البشرة)، فخاف من أن يقوم بقتله، ولجأ إلى السلاح، وأطلق عليه النار، فأرداه قتيلاً. لكنهم لجأوا إلى طرق متعددة؛ كان أولها الشك فيمن أطلق نداء استغاثة باتصاله لطلب النجدة من 911، فاستجوبوا الشهود وأقارب القتيل (أمه وأباه)، ليبحثوا عن ثغرات في عدم معرفتهم لصوت ابنهم. ويريدون أن يصلوا إلى أن من اتصل طالباً النجدة هو القاتل زيمرمن، وأنه هو من كان في وضع الخطر. أما الدراما الحقيقية، فقد تمثلت في استدعاء محامي الدفاع لأحد أصدقاء زيمرمن، ممن خدموا في الحرب الفيتنامية، ليؤكد بكل ثقة، أن تجربته الطويلة تجعله يعرف أصوات من هم في حالة الحاجة إلى النجدة، حتى وإن غيرت أوضاعهم، أو اصاباتهم الدرجة المعتادة للصوت. فهو - حسب ادعائه - قد سمع أنات كثير من رفاق الحرب، وتعرّف على التغير الذي يصحب الوضع المأساوي للإنسان؛ وهو بهذا يؤكد أن صوت المستغيث في تسجيل 911 هو صوت زيمرمن. حدثت مشادات في اليوم قبل الأخير من نطق الحكم بين محامي زيمرمن والقاضية، وأبدت امتعاضها من تذمره الدائم من كل قرار تصدره، أو اجراء تتخذه. فتوقعت بأنها بصدد اختيار حكم القتل من الدرجة الثانية على الأقل ضد زيمرمن؛ خاصة بعد العرض المقنع تماماً من محامي الادعاء، بأن زيمرمن لا يمكن أن يكون قادراً على تناول مسدسه من وضعه الذي حكى في وصفه لأحداث القصة، لو كان ملقى على ظهره، والضحية كان يجثم فوقه، وممسكاً به باحكام. وأتى بدمية وألقى بها في الوضع الذي حكى عنه زيمرمن، وأمسك بها على الأرض، وقال: كيف يستطيع أن يتناول مسدسه وهو في هذا الوضع؟ لكن الحكم صدر ببراءة زيمرمن، وهو غير مقنع لكثير من الناس في البلاد، خاصة من السود. ولذلك اضطر الرئيس الأمريكي إلى التعليق على القضية والمحاكمة، طبعاً مع احترامه للحكم والمحكمة؛ لكنه علق بطريقة تدغدغ مشاعر السود، بأنه ربما يكون قد تعرض عندما كان في سن هذا الشاب الأسود إلى تعامل مماثل من العنصرية. وأقول تعليقاً على ما حدث، إن الدستور الأمريكي رائع؛ لكن قوانين تطبيقه في كل ولاية (والحادثة وقعت في فلوريدا والمحاكمة كانت وفقاً لقوانينها) ليست خالية من العيوب. فكيف يعترض محامو الدفاع على امكان أن توجه القاضية أسئلة إلى المتهم، وتقبل المحكمة ذلك الامتناع، لكي يتولى المحامون المتلاعبون باللغة عملية إدخال القضاء في دهاليز غير الأسئلة المباشرة: لماذا قام بقتله والآخر غير مسلح، ولا يشكل خطراً على حياته؟ أما الأمر الآخر، الذي استغربت أن المحكمة حسمته فقط بأقوال الشهود والمحامين، فهو تحديد صوت المستغيث. فحتى لو لم يكن واضحاً، أو متغيراً بسبب الحالة النفسية لأي منهما؛ فإن معامل اللسانيات في أي جامعة قادرة على أن تساعد في ذلك. فهما مختلفان في العمر والوزن واللون والبيئة، ولكل ذلك دور في تحديد النبر واختيار الكلمات ونطق المقاطع .. فلماذا كان التسرع في إصدار الحكم بوصفه دفاعاً عن النفس؟