لكل نص علاقة بالزمان والمكان الذي وُجد فيه، هذا من طبيعة اللغة، فاللغة هي مخزن الأفكار، وهي مستودع التصورات وهي التي تنتج الثقافة، والقرآن الكريم نزل بلسان العرب في زمن النبوة، وهو كلام الله تعالى الذي أوحاه إلى رسوله عليه الصلاة والسلام. بحث العلماء الأوائل في طبيعة العلاقة بين القرآن الكريم والزمن الذي نزل فيه، أعني ثقافة مكةوالمدينة والجزيرة العربية، لذلك تحدثوا عن المكي والمدني وهذا مبني على أن ما نزل في مكة يختلف في أسلوبه ومواضيعه عما نزل في المدينة، وبحثوا أيضا في الناسخ والمنسوخ، والنسخ فيه مراعاة للزمان وأحوال الناس، وبحثوا أيضا في أسباب النزول، فلاحظوا أن بعض الآيات نزلت بسبب، ثم بحثوا مسألة أصولية تتعلق بذلك، وهي (هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب)، هذا كله يدل على أن المفسرين استشعروا منذ البداية أن العلاقة بين النص القرآني والنسق الثقافي حاضرة ومؤثرة. تحديد هذه العلاقة بين النص القرآني والنسق الثقافي ينبني عليها الإجابة على سؤال التأويل في نسق ثقافي مختلف، بمعنى أن من يأتي في زمن غير زمنهم، وفي ثقافة مختلفة عن ثقافتهم كيف سيفهم القرآن وكيف سيقرؤه، ما هو الثابت وما هو المتغير، وما المقاصد التي جاء النص من أجلها. الحديث عن الثوابت والمتغيرات هو في جوهره حديث عن هذا الأمر، فالمتغير هو ما يتغير عبر الأزمنة واختلاف الأمكنة، والثابت هو الجوهر الذي لا يتغير، هو ما يصلح لكل زمان ومكان، لكل نسق ثقافي ونمط حضاري، لذلك ليس الخلاف في وجود الثوابت والمتغيرات، وإنما الخلاف في ماهية هذه الثوابت والمتغيرات، ما هو الثابت وما هو المتغير، ستجد لكل مجتهد رأيا يستدل عليه ويحاول إثباته. الحديث عن المقاصد الشريعة هو جزء أيضا من هذا الموضوع، فللأحكام الشرعية مقاصد عليا جاءت من أجلها، والمقاصد هي الثابتة، لذلك إذا كان إعمال الحكم سيخل بالمقصد فهنا تكمن مشكلة، وأيضا إذا ثبت المقصد الشرعي صار لازما أن تنسجم معه الأدلة الظنية، وثمة تفصيل كبير بالمسألة، ويستدل بعض الباحثين على هذا أن علم المقاصد نضج في الأندلس على يد الشاطبي، وذلك لاختلاف المكان، فحين وصل المسلمون إلى الأندلس وهي قريبة من حضارة مختلفة، شعروا بالحاجة إلى الحديث والبحث في مسألة لها علاقتها باختلاف الزمان والمكان، أو باختلاف النسق الثقافي. هناك توجس عند بعض علمائنا من مسألة علاقة النص القرآني بالزمان والمكان، أو ما اصطلح على تسميتها ب(التاريخية)، وسبب هذا التوجس الاعتقاد بأن من يطرح هذه المسألة فإنما يعني أن الإسلام جاء لنسق ثقافي معين وأنه لا يصلح للأزمنة الأخرى، وهذا كلام لا يمكن قبوله، فالأديان لا تنسخ بالتقادم، وليست الأديان فقط بل حتى النصوص الوجودية والفلسفية والأدبية لا تنسخ بسبب قدمها أو اختلاف نسقها الثقافي، بل ربما العكس، يشعر القارئ أن النصوص الأدبية القديمة -مثلا- أعمق تأثيرا وأكثر إلهاما من النصوص الحديثة، ويرى أن الأعمال الفنية القديمة والتي تختلف في نسقها الثقافي أشد أثرا وأكثر عمقا إنسانيا من الحديثة، فمن يرى أن النص فقد صلاحيته لمجرد كونه قديما فإنما هو يمارس سطحية معرفية. الأطروحات في مفهوم التاريخية كثيرة ومتعددة، وبالتالي لا يمكن أن نحصر مفهوم التاريخية برأي هذا المفكر أو ذاك، وحين نتحدث عن نص محدد فالأمر أيضا يختلف من باحث لآخر. جوهر المسألة سواء سميناها (التاريخية) أم علاقة القرآن بالزمان والمكان أم بالنسق الثقافي فالاسم لا يهم إن كان سيسبب اللبس، جوهر المسألة أن القرآن نزل بلغة العرب، ولغتهم هي ابنة نسقهم وزمانهم ومكانهم، وبالتالي ثمة علاقة بين النص القرآني والنسق الثقافي، ويجب البحث عن ماهية هذه العلاقة، وفي اعتقادي أن المفسرين الأوائل بحثوا عن هذه العلاقة سواء في علوم القرآن أم في كتب التفسير، فكلام المفسرين عن المقصود بالآية والمعني بالخطاب وهل هي خاصة بهم أو عامة أكثر من أن يستدل عليه، لكن لم تتحول هذه المسألة إلى نظرية وقانون مطرد، بمعنى أن هذه العلاقة لم تتضح تماما على يد المفسرين. تحديد هذه العلاقة بين النص القرآني والنسق الثقافي ينبني عليها الإجابة على سؤال التأويل في نسق ثقافي مختلف، بمعنى أن من يأتي في زمن غير زمنهم، وفي ثقافة مختلفة عن ثقافتهم كيف سيفهم القرآن وكيف سيقرؤه، ما هو الثابت وما هو المتغير، وما المقاصد التي جاء النص من أجلها، أو الإجابة بأي طريقة علمية أخرى، وحتى يتم إنجاز هذه المهمة سيبقى سؤال التأويل ناقصا. @alhasanmm