طارق رمضان مفكر إسلامي سويسري من أصل مصري، وهو حفيد مؤسس حركة «الإخوان المسلمين» المصرية الإمام حسن البنا من جهة أمه، وهو حالياً أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في كلية اللاهوت في جامعة اكسفورد. وصفه بعض الكتاب الغربيين بأنه «مارتن لوثر الإسلام؟»، إذ ربطوا بين دعوته إلى قراءة القرآن قراءة سياقية، وبين ما خلفه لوثر من ميراث فكري. وكان رمضان قد طالب في العام 2005 بإيقاف تطبيق الحدود الشرعية؛ لأن هذه العقوبات بحسب قوله «لا تطبق غالباً إلا على النساء والفقراء، أما الأغنياء والأقوياء والظالمون فهم منها في مأمن دائم». وقوبلت هذه الدعوة بالنقد، ورفضتها لجنة البحوث الفقهية في الأزهر الشريف على اعتبار أن الحدود منصوص عليها وتعد نصوصاً لا تحتمل التعطيل. وقد عبر رمضان في مقدمة كتابه «الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر»، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، عن خيبة أمله إزاء هذه الردود و «نقص الحوار النقدي الهادئ» الذي وصفه ك «أحد الشرور التي تقوض الفكر الإسلامي المعاصر». يقول رمضان إن صحوة الفكر الإسلامي تقتضي بالضرورة التوفيق بين بعده الروحي من ناحية، والالتزام المتجدد والقراءة المتأنية والتحليلية (أي الاجتهاد) للمصادر الدينية في ميادين الفقه والشريعة من ناحية أخرى. يتساءل رمضان: لماذا فشل الرجوع إلى الاجتهاد، وهو الأمر الذي جرت المطالبة به على مدى فترة طويلة من الزمن، في ولادة التجديد المنشود؟ ويتساءل عن الأسباب التي حالت دون تحقيق الاجتهاد للأهداف التي رسمها لنفسه. يتضمن الكتاب ثلاثة اقتراحات أساسية، الأول يدعو لإعادة قراءة مفهوم الإصلاح ذاته، بحيث يتم فهم الإصلاح فقط على كونه «توأمة مع الواقع»، ودعم هذا الفهم الجديد بكل الأدوات الروحية والعلمية والثقافية المتاحة. وهو لا يستقيم من دون الاقتراح الثاني وهو إعادة النظر في جغرافية أصول الفقه ومصادره وتصنيفاته، والعمل على دمج المعارف الإنسانية والأخلاق التطبيقية، التي يمكن من خلالها تحديد غايات الإسلام السامية (مقاصد الشريعة). إذ ليس كافياً الاعتماد على المصادر النصية لمعاينة العلاقة بين المعرفة الإنسانية (الدين، الفلسفة، العلوم التجريبية والإنسانية، الخ) و «الأخلاق التطبيقية» حيث «يتعين دمج الكون والطبيعة والمعرفة المرتبطة بما تقدم في العملية التي يمكن من خلالها تحديد الغايات السامية والأهداف الأخلاقية للإسلام، أي مقاصد الشريعة». وعملية فهم النصوص من طريق السياق لا تستقيم بالنسبة لرمضان من دون الأخذ بالاقتراح الثالث، وهو تقاسم سلطة فهم النص بين علماء النصوص وعلماء الواقع (العلوم التجريبية والإنسانية)، وذلك من خلال الرسم الدقيق للكفاءات والتخصصات والأدوار المنوطة بهم في مختلف المجالات، من أجل تحقيق الإصلاح الجذري وإعادة تأويل النصوص الدينية. ويرى رمضان أنه يتعين أن يتعاون علماء النصوص (علماء الدين) مع علماء الواقع من الآن فصاعداً وعلى قدم المساواة، من أجل إطلاق عجلة هذا التغيير الذي ننشده. وهذا الأمر يتيح الأخذ في الاعتبار الربط بين «فقه الواقع» و «فقه الدين» واعتماد «فقه المقاصد» كأحد الأركان التي يقرأ بها النص القرآني، أي «إعادة النظر في مسألة أولوية العالم الديني على العالم الدنيوي، والنظر إلى أن العالمين في مستوى واحد من التقدير في ما يخص تبني الفقه المقاصدي باعتباره أحد أصول فهم النصوص الدينية». يقول رمضان إنه وضع نظريته «الإصلاح الجذري للفكر الإسلامي» من أجل فهم الواقع واللحاق بركب التطوّر العالمي بعد أن «فشلت» دعوات الإصلاح التي تلاحقت في السنوات العشرين الأخيرة في تحقيق هدفها. وهو يقر بصعوبة التغيير لأن التغيير يفرض مراجعة التصنيفات المعيارية القديمة، التي أقامها المسلمون؛ وهو ما يعني بشكل أدق مراجعة ما صنفه علماء الأصول في مصادر الفقه عبر مختلف المدارس. ينبغي، إذن، اعتبار الكون والعلوم المرتبطة به مصادر موضوعية وضرورية للفقه الإسلامي. إلا أن السؤال الذي يتوقف عنده رمضان: هو من الذي في مقدوره أو من صلاحيته القيام بالإصلاح المنشود؟ ولمحاولة الإجابة عن السؤال يعود المؤلف إلى الحديث النبوي الذي يتحدث عن ظهور من يجدد الدين كل مئة عام. وفي تأمله لهذا الحديث، يذكر بأن مثل هذه الإحالة على الزعامة وانتظار الزعيم أو الزعماء غالباً ما تكون له نتائج عكسية للمنتظر منه، وهو ما يعني في الوقت ذاته أن التشبث بفكرة الزعامة يعكس حالة عجز الأمة التي لا يمكن الخروج منها إلا بحضور هذا «الزعيم» أو هذا «المثقف» أو هذا «العالم»، وتُبعد الأمة عن تحمل مسؤولياتها، وتجردها من الثقة في كفاءتها. وشخَّص رمضان عمليات الإصلاح والاجتهادات التي يقوم بها العديد من العلماء المسلمين في السنوات الأخيرة بأنها «إصلاح دفاعي غير مبني على إصلاح حقيقي ورغبة في تغيير الواقع، ولكنها تسعى إلى مهادنة الواقع والاندماج فيه ومواكبة تطورّه لا أكثر ولا أقل، إضافة إلى تلبية الحاجة والضرورة». يعالج الكتاب في الأقسام الثلاثة الأولى الجانب النظري ويحدد إطار العمل الذي يتم التعاطي مع الحالات العملية من خلاله في القسم الرابع. في القسم الأول يقوم بمعاينة المصطلحات وتفسير طبيعة الإصلاح الذي يتحدث عنه. وفي القسم الثاني يقوم المؤلف بالتعريف بالمدارس الكلاسيكية الرئيسية الثلاث التي بينت أصول الفقه، وهي المدرسة الاستدلالية (المذهب الشافعي)، والمقاربة الاستقرائية (المذهب الحنفي)، ومدرسة المقاصد (الجويني والشاطبي). أما القسم الثالث فيتناول «جغرافية جديدة لأصول الفقه»، ويقارب أربعة مواضيع في أربعة فصول هي: «تحديد مصادر أصول الفقه الإسلامي»، و «الواقع باعتباره مصدراً فقهياً»، و «التعقيد المتنامي للواقع»، ثم «التوسع بأخلاق إسلامية تطبيقية». والقسم الرابع خصصه المؤلف ل «دراسات حالة» في ستة فصول تعالج «الأخلاق الإسلامية والعلوم الطبية» و «الثقافة والفنون» و «المرأة: التقاليد والتحرر» و «البيئة والاقتصاد»، ثم «المجتمع، والتعليم والسلطة»، ف «الأخلاق والعموميات». ماهية الاجتهاد ويتوقف عند شروط الاجتهاد كما عرفت عند العلماء المسلمين. وفي الحديث عن المذاهب الفقهية التي شهدها الإسلام بعد الفترة النبوية، يتوقف عند بواعث ظهورها، التي لخّصها في التطور الزمني، الذي باعد المسافة الفاصلة بين المسلمين والعهد النبوي وعهد التابعين؛ إذ اختلفت التأويلات وتعددت القراءات فصار لزاماً على الأئمة الكبار أن يحدوا من هذا التنوّع لمصلحة وحدة وتوحّد الأصل والتحكم في المعاني. ويذكر رمضان العديد من الفقهاء والعلماء والتيارات الفقهية والمدارس التي كان لها دور كبير في بلورة مفهوم «التجديد» عبر الحقب التاريخية. فيعرض بعمق نافذ المقاربات الكلاسيكية في أصول الفقه: المقاربة الاستدلالية التي قام بها الشافعي في كتابه «الرسالة في أصول الفقه»، ومن ثم المقاربة الاستقرائية التي آثرها تلامذة الإمام أبي حنيفة استناداً إلى مسائل شيخهم الكبير، وأخيراً المقاربة المقاصدية التي تطورت لدى الفقهاء بين الجويني (478ه)، والشاطبي (790ه). بعد هذه القراءة الموجزة لكن العميقة للمنظومات الكلاسيكية في التأصيل الفقهي، عرض رمضان منظومته الخاصة القائمة على ثلاثة مبادئ: الكون المنظور، والكون المسطور (القرآن الكريم والسنة)، والواقع. ولأن سقف المنظومة لديه أخلاقي؛ فإن هذا التصور الجديد نجمت عنه تطبيقات أو رؤى لوجوه الإنجاز والقصور في الأعمال الفقهية الحديثة والمعاصرة، مرئية في ضوء حركية الأصول القديمة، والاحتياجات والكشوف المعاصرة. لقد درس إذن موضوعات: الأخلاق الإسلامية والعلوم الطبية، والثقافة والفنون، وقضية المرأة مسلمة وغير مسلمة، والبيئة والاقتصاد، والمجتمع والتعليم والسلطة. ثم عاد في الخاتمة لوضع تلك القضايا جميعاً تحت السقف الأخلاقي لأهداف الدين وغاياته. يرى رمضان أن الطريقتين الاستدلالية والاستقرائية تتيحان تحديد المصادر الأولية للفقه الإسلامي، والقضية التي على المحك هي معرفة كيفية التعامل مع النصوص المرجعية في السياقات الجديدة وعلى مرّ تاريخ البشر، بخلفية المحافظة على التمسك بالكتاب والسنّة، مع وضع أطر عمل ومنهجية وأعراف، والأخذ بالاعتبار العالم والمجتمع والعادات والأعراف كمجالات طبيعية في عملية التشريع والإفتاء. وعلى رغم عودة العلماء إلى التركيز المفرط على النصوص قبل أي مصدر آخر، إلا أنه ما من مرحلة حالت فيها هذه الحركة التاريخية دون الإنتاج الفقهي، ودون اعتبار علل النصوص ومقاصدها. مدرسة المقاصد ويدرس رمضان مدرسة المقاصد، من خلال دراسة مساهمات المذهبين الحنفي والشافعي، ليلاحظ بروز الأسئلة المتعلقة بأسباب الحكم والمراجع الضمنية والصريحة لعلة الأمر أو النهي. فالقياس أو الاستحسان ممكنان فقط بعد أن يتم تحديد العلة في المصدر النصي الأولي. فهذا يتيح استنباط أصل يمكن للعلماء من خلاله فقط إسقاط الباعث الفقهي على أوضاع إنسانية أخرى مشابهة، وهو ما يعرف بالفروع. ويسري المبدأ نفسه على المصالح المرسلة وهي القضايا المتعلقة بالمصلحة العامة والتي سكتت النصوص في شأنها، والتي أرساها في وقت مبكر الإمام مالك (توفي عام 179 ه /796م)، والتي تقتضي من الفقهاء، في ظل غياب النص التوصل إلى قوانين تتماشى مع توسع المصادر النصية ومنطقها. وهذا المشروع سيكون مستحيلاً من دون الاستنباط المسبق للمقاصد الضمنية والصريحة من النصوص المرجعية. لذلك كان على الفقهاء الأوائل والأصوليون لاحقاً الرجوع باستمرار إلى السبب أو العلة والقصد أو الحكمة التي تسوغ أمراً أو رخصة أو تحريماً، أو تشكل الأساس له للتمكن من إصدار فتاوى جديدة أو وضع منهجية تتضمن مبادئ استنباط الأحكام الشرعية. فقد أسس الإمام الشافعي علماً جديداً هو أصول الفقه، وبعد نحو 250 عاماً على ذلك، شرع فقيه شافعي المذهب هو الإمام أبو المعالي الجويني (المتوفى عام 478ه/1085م) في تأمل مبتكر في أصول الفقه، واعتمد على أعمال الشافعي لكنه استنبط تصنيفاً جديداً في كتابه «البرهان في علم الأصول»، فكان السباق إلى تصنيف الأحكام بناء على ما يمكن تصوّره من قصد المشرّع الحكيم وعلل الأحكام لا على حرفية الأحكام ومضامينها فقط. فكان أول من أرسى منهجية انطلاقاً من الفقه وتطبيقاته العملية تقوم على البدء بالمراد أو العلة التي تقف خلف كل حكم، من أجل تحديد مقصد المشرّع، بما أنه يمكن استنباطه بدراسة مجموع الأحكام والشريعة ككل. كما شرع أبو حامد الغزالي في مهمة توضيح الفئات والمبادئ التي يمكن أن تتضمنها، وعاد إلى مفهوم الاستحسان الذي قيّد استخدامه الشافعي بدرجة كبيرة، وساند في كتابه «المستصفى من علم الأصول» رأي الإمام مالك ومذهبه في المصالح المرسلة وفي مبدأ الاستصلاح ( الذي يعتمد على المصلحة العامة في غياب نصوص ذات صلة)، ليضع بذلك نقطة انطلاق مدرسة المقاصد وصولاً إلى زمن الشاطبي (المتوفى عام 790ه/1388م). وقام الغزالي بعملية توليف من خلال عملية التمييز بين مجموعات المقاصد الثلاث وفقاً لأهميتها وأولويتها، وهي الضروريات (المقاصد المرتبطة بالحاجات التكميلية) والتحسينات (المقاصد الثانوية المرتبطة بالتحسين أو التطوير). أما أبو اسحق الشاطب، فقد تأثر بالأدوات التي وضعها صحابة النبي والتابعون والإمام مالك، ودمج في مقاربته كل الأعمال والمنهجيات التي أنتجها في زمانه فقهاء المذاهب الأخرى السنية والشيعية المتنوعة. فهو اقترح نظرية جديدة في أصول الفقه بناء على استنباط «مقاصد الشريعة» وتصنيفها. وكان عمله نقطة تحوّل في أصول الفقه، بمنهجيته التي جمعت بين الأدوات المتنوعة التي استنبطتها المذاهب الفقهية. وسيكون مستحيلاً على ضوء مقاصد الشريعة دراسة النصوص بمعزل عن علاقتها بسياق تطبيقها العملي، الذي ينبغي أن يظل مخلصاً لمبادئ حماية الغير ودفع الضرر، مع الأخذ في الاعتبار البيئة ووضع الأفراد والجماعة والعادات والأعراف، كجزء من عملية إصدار الفتوى وتطبيقها. فالشاطبي يعتبر أن الحكم الشرعي قد تتغير منزلته تبعاً للسياق الذي يُدرس العمل ويحكم عليه فيه. وبالتالي يصبح التقليد الأعمى للسلف الصالح مستحيلاً، ويصبح نطاق احتمالات التوصل إلى أحكام وفتاوى منطقية ومعتمدة على العقل أوسع بكثير بما يتجاوز القياس والاستحسان المصحوبين بأوضاع مقيدة للغاية في تطبيق الفقه. إن قراءة الشاطبي للمصادر النصية هي الأكثر إبداعاً ويمكن أن تقودنا إلى المرتبة الثانية في التجديد الذي يدعو إليه رمضان. ويركز رمضان على أن النص الإلهي لا يعيق العقل الإنساني، كما أنه يفتح آفاقاً متعددة ومتنوعة لممارسة عقلانية نشيطة ومستقلة. إن ما نحتاج إليه اليوم، بحسب رمضان، هو التزام راسخ، وجهاد، من أجل حرية التشكيك بالتقاليد ومراجعة الممارسات وتحدي ومساءلة سلطة علماء الدين الراسخة (والمحمية) وصلاحياتهم بصورة نقدية. كما يطأ منطقة شائكة عندما يتحدث عن العلاقة بين النص الوحيي، وبين فهم القارئ لهذا النص. يقول: «إن وضعية النص يمكن أن تكون بالفعل ذات تأثير على شكليات القراءة، ولكن تظل عقلية القارئ الذي يقوم بتفسير هذا النص هي المحدد الأساسي في طرح التصنيفات والشكليات الخاصة بهذا التفسير». كما يؤمن بديناميكية التأويل عبر الزمان والمكان، ولكنه من الناحية الأخرى يضع ضوابط لهذه العملية، موضحاً أن «القضية المحورية هي تحديد طبيعة وحدود عملية التأويل في مقابل النص الوحيي». ويقترب رمضان في رؤيته للاجتهاد وقراءة النص الديني من نظرية «مرونة الشريعة» (القبض والبسط) للمفكر الإيراني عبد الكريم سروش الذي يفرق بين الدين الثابت والمعرفة الدينية المتغيرة، فالدين مقدس ومطلق أما معرفتنا البشرية وفهمنا للدين فهي نسبية وغير مقدسة وترتبط بالمكان والزمان. * باحث لبناني