التأويل علم متجدد، إنه قديم جداً ولكنه اليوم حاضر بقوة في الخطاب الفلسفي والنقدي المعاصر عربياً وعالمياً. والسؤال الكبير الذي يبحث التأويل عن جوابه: أين يقع المعنى بالضبط؟ وهو يتصل بصورة إشكالية بسؤال آخر: ما هو المعنى؟ وهو إشكالي بطبعه؛ لأنه لكي نعرف ما هو المعنى لا بد أن نعرف أين يقع هذا المعنى وأن نصل إليه وبالتالي نتعرف عليه، ومن جهة أخرى فإننا لن نهتدي إلى مكان المعنى ما لم يكن لدينا ولو تصور أولي عن ماهية المعنى. وهذه المسألة في ظاهرها تبدو داخلة ضمن المبحث الميتافيزيقي الذي ينفر منه علماء التأويل اليوم، لذا سنتركه الآن ونتجه إلى المواضع المشهورة التي يختلف عندها هؤلاء العلماء، وهي مواضع تواجد المعنى. والموضع الأول هو «النص» وينبغي التذكير أن المقال هنا خاص بتأويل النصوص فالنص مكان مأمون حسب البعض، وهو الموضع الذي يجب أن يقصده المفسرون. على أن هناك اعتراضات تبدو وجيهة ترى أن المعنى يقع في «بطن الشاعر!»، أو بصورة أوضح في عقل المتكلم أو الكاتب، فقصديته هي الأساس في التفسير، وليس النص سوى وسيلة لنقل المعنى من عقل إلى عقل. ويشير «جوناثان كولر» إلى وجه من وجوه الاعتراض بأن المتكلم قد يخونه التعبير فيكون المنصوص عليه مخالفا لما يقصده المتكلم ولذا فعلينا الرجوع له لاستجلاء المعنى واستيضاحه. وطبعا هذا صعب جدا إذا عرفنا أن أغلب المؤلفين عاشوا في عصور قديمة أو أنهم لم يعودوا على قيد الحياة، لذا رأى البعض أن نعود إلى السياق التاريخي الذي نشأ فيه والسيرة الذاتية التي كتبت عنه لمعرفة شيئا من حياته النفسية التي قد تساعدنا على فهم ما كان يقصده بهذه العبارة أو تلك. ومن المذاهب المعاصرة اليوم من يتجاهل قصدية المؤلف بوصفها غير ذات بال، فما يهمنا هو «النص» الذي كتبه، فقد يكون تفسيرنا له أكثر جمالا أو قوة مما كان يقصده. وبعض هذه التيارات تراهن على ذكاء وإبداع القارئ ذاته الذي يفسر النص، فهو في حقيقة الأمر من ينتج المعنى ويبدعه باعتبار أنه لا نص بدون قارئ. من هذه النبذة السريعة نلاحظ أن المعنى ليس له مكان واحد وأن الفلاسفة والعلماء اختلفوا في موضعه، فهل هو في النص أو المؤلف أو القارئ أو السياق التاريخي والاجتماعي، وهل المعنى متغير أم أنه ثابت لا يتقلب مع تقلبات الزمان، إلخ. والمراد هنا تبيين أن التأويل هو علم الاختلاف بامتياز، أي أنه أكثر العلوم التي يجب التسامح في الاختلاف فيها (فهل هذا ما حدث؟). دعونا ننظر إلى جانب آخر، جانب سلبي تقريبا يكتنف تاريخ التأويل علما وممارسة. وسوف نركز على هذا الجانب كما تجلى في التاريخ الإسلامي، وهذا الجانب الذي أعني هو «صراع التأويل» أو بالأخرى الصراع السياسي على التأويل. وقد اخترت التاريخ الإسلامي لأن التأويل يحظى فيه بأهمية عظيمة قد لا نجدها في كثير من الحضارات الأخرى ربما باستثناء الحضارة المسيحية. إن أبرز ما يطلعنا عليه التاريخ الإسلامي هو أن هناك مذاهب عقدية وفقهية بقدر ما هناك من تأويلات للنصين القرآني والنبوي. وأن الفرق الجوهري بين هذه المذاهب هو فرق في فهم كل فريق لهذه النصوص. ومما يجعل للتأويل أهمية هو نتائجه الخطيرة، فهو في حقيقته عبارة عن إنتاج نص آخر متولد أو متصل بالنصين المقدسين (بالقرآن تحديدا)، هذا النص الآخر الذي يزعم الوصول إلى المعنى المطلق للنص المقدس هو اللبنة الأساسية في التقنين والتشريع، بل وفي فرز الناس وتصنيفهم، ومن ثم تقرير مصير كل واحد فيهم: أفي الجنة هو أم في النار! وإذن فالتأويل هو مسألة مصير وهوية وحياة وموت وليس عملا عاديا. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتساءل: هل افترقت «الأمة الإسلامية» إلى فرق ومذاهب شتى بسبب اختلاف علمائها في التأويل كما يبدو للوهلة الأولى؟! أم أن هناك اختلافاً مضمراً عميقاً جعلهم بشكل تلقائي يختلفون في التأويل؟ وهذا الاختلاف المضمر أريد به الاختلاف السياسي بالطبع. فلنعد صياغة التساؤل: هل الاختلاف في التأويل سبب للاختلاف السياسي أم العكس؟ في رأيي أن الاختلاف لو كان في التأويل فإن المسألة ستكون مجرد مسألة علمية أو حتى سمها أكاديمية، ولا شأن للناس غير المختصين بها. ولكن الحقيقة أن المسألة هي أن الاختلاف السياسي أنتج هذا الصراع التأويلي العنيف الذي شهده التاريخ الإسلامي ولا يزال. فكل فريق سياسي ينتج تأويله الخاص به، ومن ثم يشرع في صياغة الهوية بناء عليه، ويبدأ في صناعة التشريع استنادا إليه، ويخرج «عدوه السياسي» من حياض الدين تبعا له. من المعلوم أن كل قوة سياسية عندما تسيطر وتزيح النظام السياسي الموجود فإنها تبدأ في استظهار عقيدة جديدة وفقه جديد، أو في استعادة علم قديم... المهم هو أن تختلف في منظومتها التأويلية عن النظام السياسي الذي حلت محله، وهذا شيء يمليه التميز السياسي. إن صراع التأويل ينطوي على صراع سياسي حاد، ولكن وبما أن السياسة شأن من شؤون الدنيا فإن الساسة المتصارعين لا يظهرون ذلك للملأ، فلن يقف الملأ إلا مع من ينصر الدين لا الدنيا!، وهنا فكل فريق سياسي يحاول جاهداً أن يستفرد بتفسير النص وتأويله ويدعي أنه هو وحده من وصل إلى المعنى التام والغاية القصوى من التنزيل المبين، وأن غيره ضال مضل. وهذه الآلية لعبت بها كل الفرق بلا استثناء. إن الغرض الرئيسي للمقال هو تبيان أن كل الفرق والمذاهب الإسلامية قديمها وحديثها هي أحزاب سياسية قبل كل شيء وأن الصراع المرير بينها هو مشابه بل مطابق تماما للصراع الذي يدور بين المذاهب السياسية في كل مكان في العالم!.. وهذا شيء طبيعي، فالصراع السياسي هو أحد محركات التاريخ البشري، ولكن ما هو غير طبيعي عربيا وإسلاميا أن يظل الفرق غير واضح لدى أغلب الناس حتى يومنا هذا! وهذا دليل على زيف أو هشاشة الوعي السياسي لدى الكثيرين للأسف، حيث صار هناك تماهٍ تام بين التأويل العلمي والتأويل السياسي. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة