تقيم وزارة التعليم العالي في هذا الشهر مؤتمراً دولياً حول «نظام الجامعات العالمية الرائدة» والمطلع على منشورات الوزارة حول هذا المؤتمر يدلك على أنها تريد أن تدخل التعليم العالي في منظومة العولمة والتغريب, لكن ذلك شرف ربما لن تصل إليه هذه الوزارة للعديد من الأسباب والتراكمات المختلفة. إن بإمكان وزارة التعليم العالي أن تعقد المئات من المؤتمرات, لكن ذلك ليس مؤشراً على نجاح هذا المسعى وصلاحيته, بل هو دليل ترف وزيادة بهرجة تزيح مفهوم التعليم العالي عن مفاهيمه الحقيقية, وأنظمته الإنسانية, وأهدافه العلمية المرجوة. إن أنظمة التعليم العالي في الجامعات تعد من المنظومات التراثية, لها عشرات السنين لم تتغير أو تتبدل, ولها من اللوائح ما عفى عليه الزمن وكأنها كتاب مُنزَّل, وهذه اللوائح تشعرك بمدى المفارقة الهائلة بين ما تعقده الوزارة من مؤتمرات تدَّعي فيها العولمة ومسايرة نظام الجامعات العالمية المتطورة, وبين أنظمة قديمة تطبقها وفيها من الخجل الكثير مما يحرج المسيرة التنموية لبلد له مكانته في العالم كالسعودية. وكيف سيكون هناك بحث علمي وهي قائمة فكرياً على تصنيف المخالفين وجعلها مقياساً من مقاييس التوظيف وقبول الرسائل الجامعية, ولهذا النمط من التشدد ضحايا كُثر من القيادات العلمية والإبداعية من الأكاديميين والشباب السعودي الذين همشوا وأبعدوا بكل عنف وقوة؟كما أن عدداً من القيادات الجامعية في التعليم العالي يسير وفق نظام من التشدد في رؤيتها الفكرية أو الإدارية, ما يعزز نظاما بيروقراطيا معرقلا يجعل التعليم العالي مكاناً كئيباً وبعيداً عن أي رؤية تطويرية, ومثال على ذلك أن منظومات كثيرة للتعليم العالي كالبحث العلمي وأعضاء الهيئات التدريسية, والمقررات الجامعية, تحتاج لكثير من الغربلة والتطوير, وعلى سبيل المثال فإنك تجد أن جامعاتنا السعودية تقدم بحوثاً علمية، لكن لا نجد لها أثراً على المستوى العلمي أو الاجتماعي أو الثقافي, بل هي من باب عمل الواجبات المنتهية برصدها في تقارير منجزة. كما أن الأصل في البحث العلمي أن يعمله ويمارسه الباحث أو عضو هيئة التدريس في الجامعة, لكن كيف يتسنى له ذلك وهو يقوم بأعمال تدريسية وإدارية ليست من صميم تخصصه, بل ربما تُسند له عضويات في لجان ومؤتمرات تستنزف وقته وجهوده عن صميم عمله الأساس وهو متابعة ورصد وتأليف لمنجزات البحث العلمي العالمي ومستوياته المتقدمة, ومع ذلك فإن طلاب الجامعات عندما يتخرجون فإنهم يصدمون بواقع متغير ليس له وجود في مقررات جامعية درسوها ولقنوا إياها. إن فكرة البحث العلمي فكرة حضارية خطيرة تقوم عليها مجتمعات متقدمة, وتسقط من خلالها مجتمعات, ومن خلال هذا فما بالك إذا كانت المؤسسات العلمية لا تشكل المعايير الإنسانية فيها أهمية تذكر في سياساتها العلمية والتربوية والإدارية؟ وكيف سيكون البحث العلمي متقدماً فيها وهي تقف مواقف مدمرة من الفنون والحضارات والقيم الفلسفية؟ وكيف سيكون هناك بحث علمي وهي قائمة فكرياً على تصنيف المخالفين وجعلها مقياساً من مقاييس التوظيف وقبول الرسائل الجامعية, ولهذا النمط من التشدد ضحايا كُثر من القيادات العلمية والإبداعية من الأكاديميين والشباب السعودي الذين همشوا وأبعدوا بكل عنف وقوة؟ لقد كانت الجامعات مراكز حضارية مهمة في الفنون الموسيقية والمسرح والقيادات العلمية, لكن ذلك انتهى مع منظومة التشدد التي اكتسحت الخليج العربي في بدايات الثمانينيات الميلادية التي جنت منها دول الخليج ويلات العنف والإرهاب, وبقيت فيها بقايا في جامعاتنا إلى هذا اليوم, وأوجه لمعالي وزير التعليم العالي الموقر هذا الملخص : إنكم إذا كنتم جادين في تطوير التعليم العالي بناء على أنظمة الجامعات العالمية فإن ذلك يجعل في عنقكم أمانة كبيرة أهمها فتح ملفات الجامعات واللوائح القديمة وتغييرها, وتغيير القيادات التي لها عشرات السنين, لأنها أوجدت بيئة حاضنة للتشدد والتخلف العلمي, وإن كنتم تتغافلون عن هذا الأمر الخطير فلا شك في أن الزمن لن يغفله, وهو الحقيق بكشفه وتجليته. [email protected]