من مغامرات سندباد التي تسلَّينا بها صغارًا قصة عنوانها: (سندباد وشيخ البحر)، ويبدو أنه لابد من تلخيص تلك القصة كفاتحة لهذا المقال: ففي واحدة من مغامرات سندباد الجريئة؛ تحطم مركبه، وفقد الصلة برفاق رحلته، فلجأ إلى جزيرة مهجورة. وهناك التقى بعجوز مقعد متعب، فأشفق عليه وأطعمه، وحمله على كتفه ليعبر به إلى الضفة الأخرى من النهر، وحين أصبح العجوز فوق كتف سندباد شبك قدميه حول رقبته بإحكام، وقد بذل سندباد محاولاتٍ كثيرة للتخلص من قبضة العجوز دون جدوى، ولم يستطع التخلص منه إلا بعد أن سقاه شرابًا مسكرًا، حيث ارتخت قبضة رجليه ويديه. هكذا تخلص سندباد من ذلك الأسْر. وفي حياة كلٍّ منا نموذج لذلك الرجل العجوز يثقل كاهله، ويعيق حركته، ويقمع تطلعاته، ويخنق أحلامه، ويصادر رغبته في التغيير، والإبحار نحو المستقبل. ليس بالضرورة أن يكون ذلك العجوز شخصًا. ربما تكون التربية والرواسب التي خلّفتها في شخصياتنا هي ذلك العجوز، وهي التربية نفسها التي بذرت في النفوس بذور الخوف والتردد؛ التربية التي عوَّدتنا على حياة الدعة والراحة، وأقنعتنا أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ونصحتنا أن نسد الباب الذي تأتي منه الريح لنستريح، ولقنتنا المثل القائل: «خليك على مجنونك لا يجيك اللي أجنّ منه»! وعيَّرتنا بالعبارة القائلة: «بعد ما شاب ودّوه الكتّاب». في حياة كلٍّ منا نموذج لذلك الرجل العجوز يثقل كاهله، ويعيق حركته، ويقمع تطلعاته، ويخنق أحلامه، ويصادر رغبته في التغيير، والإبحار نحو المستقبل. ليس بالضرورة أن يكون ذلك العجوز شخصًا. يقال إن الأمثال لا تعارض، لكن لا بأس من معارضتها بين حينٍ وآخر. وهنا يمكن أن نلاحظ أن هذه الأمثال هي التي رسخت في الذاكرة منذ الصغر، وقد ترافق بعضنا من مهده إلى لحده. وهي جميعها مناقضة للرغبة في الانطلاق والمغامرة، ومناقضة لروح سندباد رمز التحرر من محدودية المكان، ورمز الانفتاح على جهات الدنيا الرحبة، والمغامرة واكتشاف المجهول. ويكفي أن يكون البحر المحاط بالغموض والأخطار والمفاجآت إطارًا مكانيًا لتلك المغامرات. ألا يعني ذلك كله وجاهة الاقتراح القائل: إن علينا أن ننسى بعض ما تعلمناه؟ لعل تلك الروح السندبادية هي ما دفع كولومبس إلى اكتشاف الدنيا الجديدة. فأقدم على مغامرته، وشعاره المضمر: «لا ترم بنفسك في البحر قبل أن تغرق السفينة»! ولو تجاوزنا حياة الفرد إلى حياة المجتمع لوجدنا في كل مجتمع شريحة اجتماعية أقرب في روحها إلى أسير لم يستطع التحرر من قبضة ذلك العجوز. وتلك شيخوخة ثقافية تشلّ الحركة، ومن ثم فهي مصدر إعاقة لأية فكرةٍ خلاقة، أو أية انطلاقةٍ نحو المستقبل. ومع أن قارئ صفحة «الرأي» يتوقع من الكاتب أن يعبِّر عن آرائه نثرًا، إلا أني أستأذن القارئ الكريم، فأخالف القاعدة، في نهاية هذا المقال، لأعبِّر عن حالة الأسر هذه بكلام مقفى موزون فأقول: «في غرفةٍ معتمةٍ أثاثُها الحيطانُ/ كلُّ حائطٍ يسندُ فيها حائطًا / خشيةَ أن ينهارْ/ في غرفةٍ مسكونةٍ/ بالصمت والأشباح والدوارْ/ كان قسيمُ غرفتي يغطُّ في النومِ/ وكان نومه كلجّةٍ ليس لها قرارْ/ حاولتُ فتحَ كُوَّةٍ صغيرةٍ/ لتدخل البهجةُ من إطارها والضوءُ والهواء/ وبعضُ ما في الكون من أسرار/ أفاق مذعورًا وصاح قائلًا: إيّاك أنْ../ إيّاك أنْ تفتحها../ فربما تسلَّلَ الدخانُ والغبارْ! هل تأمَّلتم كم عجوزًا يقطن في رأسِ صاحبي الذي يخاف من النوافذ المفتوحة؟! [email protected]