في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول:صدناك يا «بن بطوطة»! هل كان هناك مراسلون بالماضي.. أظن أني أوافق أستاذنا الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين»، وهو الصحفي الفذ ليس فقط بمصر بل بالعالم العربي. كان بهاء الدين يسمي الرحالة الكبار في الماضي، بمراسلي تلك العهود. الرحالة القدماء يترحلون ثم يخبرون العالم بما رأوا، والعالم لا حيلة له إلا أن يصدقهم لأنهم هم في «مسرح الحدث». خذ مثلا أن «تمبكتو» في «مالي» كانت إلى القرن التاسع عشر لم يصل إليها غربيٌ واحد، كل من حاول الوصول شمالا يموت في الصحراء، أو من يأتي عن طريق تقوّس نهر النيجر الكبير نحو تمبكتو يموت ب «التسي السي» أو الضواري والزواحف. وتعاظمت أسطورة عن تمبكتو انها كلها من الذهب والحجر النفيس، وأن الناس هناك يمشون على الياقوت والمرجان، وقباب المساجد من الذهب الخالص ومرصع بالجواهر، وأبواب بيوتهم من ذهبٍ مزخرفٍ باللآلي، وعزّز الخرافة جواب آفاق أمريكي كذاب نمرة واستمارة، ونقل للغرب أنه ترحل ورأى عجبا عجابا من الثروات، وأنه أخذ منها الكثير، ولكن قاطعي طرق بالصحراء اعتدوا عليه ونهبوه.. يا كذاب! حتى وصل إنجليزي شابٌ بعد أن قطع قطاع الطرق يده ورجله إلى تمبكتو. طيب ليه ارتكب هذه المغامرة المرعبة؟ لأنه خطب فتاةً أحبها وطلبت منه مهرها جواهر من تمبكتو.. ووهقته! وكمحب يراها كل الدنيا قبل التحدي الخطير. وصل لتمبكتو مقطوع الأطراف، وصُعِق! وجدها عششا مغبّرة، وطرق يابسة، والأمراض سارية والفقر هو الحاضر الأكبر.. عاد لبريطانيا فعرف الغرب الحقيقة، خطيبته القاسية لم تقبله لسببين، وكل سببٍ كان كافيا لوحده: 1- مقطوع الأطراف 2- ما جاب شي، ما في تمبكتو إلا حصى وغبار. وحبيبنا «ابن بطوطة» جشّم نفسَه أن يترك بلاده بطنجة في المغرب، وساح في الدنيا لمدة ربع قرن لم يعد فيها أبدا لموطنه.. وكان أعظم مراسلٍ على وجه الأرض، بل برأيي، وبرأي منصفين يتفوق كثيرا على الإيطالي الشهير «ماركو بولو». زين.. وصل ابن بطوطة للهند وجال وتزوج بها، ثم للصين وكان صاحب تأثيرٍ عجيب بكرزمائية قليلة التكرر حتى ان الملوك يستبقونه ويزوجونه من أسرهم- حسب ما يقول طبعا- وكان يخبر بكل شيء. إن قرأتَ لابن بطوطة تتعجب من قوة ملاحظته في الوصف، وأعجبني مثلا وصفه عن الاسكندرية، ودمشق، والصين، مما يجعلك لا تتردد أن تخلع عليه صفة ملك الوصف المشهدي. ولكن تستغرب ببعض الثقوب التي من الصعب بلعها.. لأنها كبيرة جدا. فمثلا يقول إنه عندما ترحل في جزائر بين سيلان (سريلانكا الآن) وبين أندونيسيا، وأظنه يقصد جزر بحر «ملقا» بين ماليزيا وأندونيسيا.. طيب أتحدى أي واحد يقول لي: ما الذي رآه ابن بطوطة بتلك الجزر؟ أقول لكم؟ من كلامه:»وهناك رأيت امرأةً بثديٍ واحد في صدرها، ولها ابنتان واحدة مثلها بثدي واحد، والأخرى ذات ثديين، ولكن هناك ثدي للبن، وثدي خال لا لبن فيه.. فعجبت من شأنهن.» ونحن أيضا نعجب يا مراسلنا الكبير. وأرجو أن تقرأ الأجيال الجديدة رحلة ابن بطوطة، فهي ممتعة جدا، وتلهب الخيالَ لاستلهام قصص ومعارف. هناك شيء آخر، حبيبنا ومراسلنا لم يكتب وهو في الميدان، لما وصل بلاده بعد سنوات طوال رواها على أحدهم من الذاكرة.. وخرجت للدنيا كتابا.
اليوم الثاني: الكذب يدور في الكوكب إن حديثنا عن المراسلين القدماء كابن بطوطة، وابن فضلان، وماجلان، وماركوبولو يدعوني للتأمل والتفكير. هل كل المعلومات التي تصلنا الآن في محيط المعلومات الإعلامية صحيحة ودقيقة؟ أليس من يكتبها مراسلون لهم عواطفهم وشعورهم واهتماماتهم ورغباتهم؟ عندي أن ابن بطوطة لم يرَ ذاك النوعَ من النساء في جزر ملقا، ولم يكذب باعتقادي مثل الأمريكي الكذاب الذي وصف تمبكتو بهتانا. أعتقد أنه التبس عليه الأمر بزيٍّ غريبِ لم يتعود عليه يخرج جزءا من الصدر، أو يتغير فيه تركيبته، فتهيأ له أن ما قاله صحيح. عندي شعور أطمئن إليه أن ابن بطوطة كان حسن النية ولم يتعمد التهويل أو الكذب- وعدما تقرأ سيرته الشخصية- لن يُعقل منطقا أنه قد يلجأ للكذب، فهو معدود من الفقهاء وتولّى القضاءَ في أكثر من بلدٍ زاره وناقش العلماء، ثم انه كان يقطع رحلته الطويلة المرهقة أكثر من مرة ليعود ويحج في مكةالمكرمة. ولكنها خبرات ومعلومات تلقائية وعفوية بلا مراجعة ولا مراقبة فتحدث هذه التصورات. لكن ماذا عن إعلامنا المعاصر بكل وسائله وتقنياته، انظروا لخارطة العالم، قد لا تجد منطقةً على هذا الكوكب خاليةً من صراعٍ أو معارك أو حروب، أو لحظاتٍ مشدودة أكثر تخويفا من اشتعال الحروب.. ثم انظر ما يكتبه إعلامُ أي طرف.. قولوا لي رجوتكم؟ هل ستجدون الحقيقة – وأقصد الأحداث وليست الآراء- كانعكاس المرآة، عند الأطراف المتخاصمة؟ إذن الكذب يدور في الكوكب!
اليوم الثالث: ولد إيرلندا العبقري العابث لم أخفِ ولعي بعبقرية أوسكار وايلد الذي شغل كل أوروبا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وليس فقط بريطانيا وإيرلندا. إني أعتبره طفرة في الفكر والأدب الإنجليزي وما قرأت في جمال لغته واتساق تعابيره وانهمار صوره مثيلاً إلا للآخر الأمريكي «إدغار آلان بو»، لكن الأخير كان سوداويا حالكا، بينما «وايلد» يستطيع أن يضحك حتى تؤلمك عضلات معدتك، ويستطيع أن يحزنك حتى تنعصر عضلة قلبك. إن روايتيه «إمرأة غير مهمة A woman of no importance»والقصة البديعة التي لا تُجارى في العبرة وقوة الخيال والمنطق فهي رغم أني أنصح بقرائتها مع التحفظ على بعض آراء أوسكار فيها، وهي رواية:» صورة دوريان غراي The picture of Dorian Gray « وهذه القصة من وحي رفيقه الفريد دوغلاس الشاب الثري الذي يمقت أباه أكثر شيء في حياته. كان أوسكار وايلد في غاية الوسامة ومنتهى الأناقة حتى ان الناس تقف في الشارع لفرط قشابة مظهره، وقال «ماكياي» سياسي من حزب الأحرار: «أكره هذا الرجلَ، لا ترفع زوجتي عينيها عنه.. ولا أنا!» على أن «ماكياي» لم ير شيئا حتى الآن، فقد كانوا على طاولة بها مائة شخص يتكلمون جانبا، ثم بدأ أوسكار يكلم صاحبه، وفجأة انضم جاره الثالث والرابع والخامس حتى سكتَ كل المئة على الطاولة، فقد كان أوسكار أفضل من تحدث على الموائد في كل جزر بريطانيا إلى يومنا، كان بجلسته يسحر بأبيات شعر مرتجلة، ويخترع قصصا تخلب الألباب في لحظات، يحكي بطريقة لم يتعود عليها احد.. حتى صارت تُدفع له المبالغ ليحضر الحفلات، ولكي يحضر الناس لتلك الحفلات.. وصار الشباب من الفئتين يتدافعون لتقليد ومشاهدة وايلد، واشتهر كصرخةِ تغييرٍ كبرى في العهد الفكتوري الشديد المحافظة فكرهته فكتوريا ومقتته وسمّته بالبلاء الأسود (الطاعون) وسجنته مدة سنتين، حرصت أن يكون سجنا يجعله يتوب عن طفراته وشغله للناس بآرائه وكتبه وعبقريته الشيطانية بل وفكرالشذوذ الذي اخترعه لأول مرة، وأرى أن فكتوريا كانت محقة في ذلك.. جدا، فقد استفحل تفكير أوسكار وبمكابرة وغرور مستغلا ملكاته الكتابية والفكرية والخطابية الاستثنائية لتقويض الأخلاق وما تعارف عليه الناس من الطباع السوية. في محاكمته قبل أن يُسجن كاد أن يفوز على المدعي العام والقضاة، لما ألقى خطابا دفاعيا جعل الحاضرين في المحكمة يقومون ويصفقون ولا ينتهي التصفيق حتى خرج القضاة من القاعة، ليعيدوا المحاكمة من جديد. ولا أملك المساحة لأتحدث لكم عن قصص التعاطف من حراس السجن وتضحياتهم حتى لا يقاسي كما أمرت فكتوريا. بعد السجن غادر لفرنسا واستقبله الفرنسيون استقبال الفاتحين. كان يتمنى أن يلحق إطلالة القرن العشرين، مات ولم يبقَ على القرن العشرين إلا.. شهرٌ واحد!
اليوم الرابع: هذا الكبير.. حقا إنه أديب العرب وعميدهم الدكتور طه حسين، واحد من أذكى وأنزه العقول التي قدمها الأدبُ والفكرُ العربيان لكل العالم- وإن كنتُ متحيزا جدا لعباس محمود العقاد، معتبرا انه أكبر عقل عربي أدبي فكري في القرن العشرين- وإعجابي بطه حسين إعجاب له مصداقية أكثر من إعجابي بالعقاد، لأني مبهور بالعقاد، وهذا منحى عاطفي يؤثر على سلامة الحكم العقلي الصرف، أما «طه حسين» فأحب أحيانا عاطفيا أن أكره بعض أفكاره وانسياقه المنظم نحو الفكر الغربي، بل الفكر اللاتيني الأول. ولكن الأجمل أنه يتغير بالطريق وهذه عظمة المرونة لأصل جوهر العقل كما يقول عمانويل كنت الألماني، فقد كان كتابه «الشيخان» أخاذا بمبحثه، ودالاّ على عودته الجديدة عن الاستغراب الصِّرف. في فرنسا انبهر بقوة إرادته المجتمع بالسوربون لأنه عاد لدراسة الليسانس وهو القادم لدراسة الدكتوراه، بل ويحمل دكتوراه من الأزهر.. لأنه أراد أن يتعمق في قوة اللغة الفرنسية، ويقول السوربيون: إن أجملَ خطبة متخرجين ألقيت بحفلات السوربون العريق تلك التي ارجلها «الأعمى العبقري المصري» كما راج اسمه في الجامعة هناك.. حذق اللغة حتى قال عنه لويسويه: إنه أبدع بالفرنسية أكثر من فكتور هوجو. وشيء آخر انه أراد إتقان اللاتينية وهي لغة شاقة وصعبة ومتلونة الأفعال بشكل يتعب الألسنيين المتخصصين. لذا درس طه حسين كل المواد ليس من المناهج الجامعية بل من أصعب وأغلظ الكتب وكاد أن يحفظها عن ظهر قلب مثل عكوفه على التاريخ الأوروبي القديم للبروفسور جلوتز، وقرأ تاريخ الرومان بسفر عظيم للمؤرخ «بلوك».. وكنت أقرأ جدالا بينه والعقاد حول كتاب «لانسون» الشهير عن تاريخ الأدب الفرنسي، وقرأته مترجما للعربية، وتنسّك في فلسفة الاجتماعيات بكتب «دوركهايم»،و»البيزنطية» التي ظهر بها طه حسين على أقرانه وحيدا لا ينافس في السوربون متبحرا في كتب «شارل ديل». ونبَهَ في التاريخ الحديث والجغرافيا الصعبة ويعرف الجغرافيون الكبار صعوبة أن تقرأ «لديماجون»، و «جالوا»، والأخير تحدثت عنه في تغريدات بالتويتر مؤخرا. تأثر «طه حسين» بالمنهج الديكارتي وهنا عجبي أنه انساق مع ديكارت، ولو سألتموني لقلت: «عجبي أنه أكبر عقلا من ديكارت، واقولها لأني قرأت للاثنين.. ووجدت أن طه يفوق ديكارت في المنحى التنظيري الفلسفي، ويتفوق «ديكارت» بالتخصص الرياضي الواسع.» لا يُنتهى من هذا الرجل، فأقول هذا الرجل أجبر عقلي على الانبهار به، مع أن قلبي يعارض ذلك!
اليوم الخامس: من الشعر الأجنبي أترجمه بتصرّف- عمرٌ قصيرُ، عميقٌ وطويل The double destiny of being human Is to sense the brevity; compare life to a candle to the grass But also to sense the length, the breadth, the depth, The continued story that the sense of brevity enriches. J.Donald Johnnston المصير المزدوج في أن نكون بشرا.. نستشعرُ بمسيرتِنا قِصَرَ العمرِ الذي فُطِرا ونستشعر أيضا طولا وعرضا وعمقا.. بملحمةِ القِصَرِ التي أُثريتْ أعماراً وعُمْرا! جي. دونالد. جونستون
اليوم السادس: اللقاء لا الفراق ملح الطعام الذي نتناوله كل يوم، ولم تستغن عنه أي حضارة بشرية بل قدس في الإنديز وفي قبائل بوسط أفريقيا، وكتبت قصة الملح هنا بالتفصيل، أصله ذرتان واجتمعتا في جزيء ولولا اجتماعهما لأصبح كل منهما شريرا فتاكا مدمرا لأجسام الأحياء. لكي نتحقق من ذلك ما علينا إلا أن نمرر تيارا كهربائيا في محلول منهما، والقصد أن نفرق -عمداً- بينهما، فما الذي سيحصل؟ سيظهر كل عنصر على حدة صحيح؟ سينشق «كلوريد الصوديوم» اي ملح الطعام إلى شقّيْن. أحد هذين الشقين هو عنصر «الكلور» الذي يقتل الحياة، والثاني عنصر «الصوديوم» الذي يحترق في الماء ويكون أعنف نتيجة وهي «الصودا الكاوية» تحرق في تركيزاتها العالية البشرة والأبدان. مرة أخرى، إذا التقى هذا الحارق مع ذاك السام، فإنهما يتآلفان في جزيء من ملح الطعام. إذن اللقاء أجمل وأروع وأنفع من.. الفراق!
اليوم السابع: لما خاف مني الأسد! كنت وأنا صغير لا تكاد عيني تفارق الكتب، وفي الرابعة الابتدائي وضِعَت على عيني أولُ نظارة، وما زالت النظارةُ جزءا من ملامحي حتى الآن. ولم أكن أخرج من البيت متعلقا بأهداب أمي.. واقرأ لأبطالٍ خارقين مثل طرزان سيد الغابة، وسوبرمان القاهر من كوكب كريبتون، والوطواط حارس جونثام سيتي، وقرأت سلسلة عن السندباد البحري.. وكنت أروي لأمي قصصا عن بطولاتي وشجاعتي- مع أني لا ألمس عتبة الباب الخارجي، وأمي تتعجب من بطلها الباسل الصغير. في يوم خرجت مع أختى لننقل طعامَ سحور لجيرانٍ لنا، وعند الباب رأيت أسداً رابضا، وعدت للبيت، وجررت أختي المحتجة لأنقذها معي. في الصباح أخذت والدتي لترى الأسد.. ولم يكن هناك إلا برميلُ قمامةٍ مقلوب. ونظرت لأمي وقلت متعطفا: «كان أسدا».. وقالت أمي: «خاف منك، وصار برميلا!» .