في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول:الحرية هل شغلت مفكري الإسلام؟ يسأل «الشريف نور الدين أُوزي» من المغرب: « يقول لي: أصحابي من نادى بالحرية هم الوجوديون وشرحوها، وأن التراثَ الإسلامي لم يعرف الحرية ولم يتحدثوا عنها». أشكرك على السؤال يا أخي الشريف نور. نعم، في عصرنا أكثر من صدعنا في شرح الحرية هم وجوديو سارتر وساغان، وهي تعتمد على الحرية المنطلقة الفالتة من أي معيار أخلاقي وانتماء سياسي واجتماعي واقتصادي. وربما قبلتُ الفلسفة الوجودية الأصلية التي تحدث عنها أبوها الحقيقي كيركجارد. ما علينا آجي (أي تعال باللهجة المغربية) نتحدث عن الحرية عند المسلمين. شوف الصديق ديالي ( يا صديقي بالمغربية) أرجو أن تعلم وتقول لأصدقائك أن أكثر من ناقش «الفعل الحر» هم مفكرون مسلمون من مئات السنين، وشغلهم معنى الحرية بشكل أكثر تأملا وعمقا من الوجودية المعاصرة، بل قامت مدارس فكرية حول ذلك وصار مرَجٌ وهرَج عظيم في القرون التالية لصدر الإسلام، ودارت معارك وتدخلت السياسة والحكم وقُتل علماءٌ وسجنوا والسبب كله يعود إلى نقاش معنى الحرية في أفعالنا وصلتنا مع الخالق عز وجل في هذا المعنى. بعلمي أول من أثار معنى الحرية هم المعتزلة مؤكدين على جعل الإنسان قادرا على خلق أفعاله خيرها وشرها ليكون مسئولا عنها مسئولية كاملة تبرر ثوابه أو عقابه يوم الحساب. وهنا تجد «حرية» اختيار الإنسان لأعماله، وأنا من الذين يظنون أن «سارتر» أخذ من المعتزلة في المبدأ، وأغلق جانبها الروحي والديني.. طبعا بالغوا الجماعة مثل أي مدرسة فكرية وصارت تميل لتعصب مكابر تجلّى في ظهور «النظَّامية»- أتباع ابراهيم النظّام- فقد ضلوا ضلالا مبينا لما قالوا إنها حرية مطلقة في أعمال الشر لأن الله- جل وتعالى عن ذلك- ليست له القدرة على خلق الأعمال الشريرة لأنه كله خير، حسب تبريرهم.. على أن «النظّامية» لم تقنع أحدا خارج حدودها فاستعملوا القوة كأي فرقة من غلاة المتعصبين لأفكارهم. أما «الواصليَّة»- أتباع الواصل بن عطاء فقد- وهم، والله أعلم، من فئة الإنحراف عن المنطق الديني الصحيح فقالوا بقدرة الإنسان على خلق كل أفعاله، لأن الله تعالى- بزعمهم- لا يحتّم على عباده شيئا ثم يجازيهم عليه. بينما ترى «الجهمية»- أتباع جهم بن صفوان- وهم معارضون على طول الحط للمعتزلة بكل أقسامها فيقولون إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وأنه مجبر على افعاله لا قدرة ولا إرادة له ولا اختيار وإنما يخلق الله به الأفعال كما في الجمادات فيقال: أثمرت الشجرة، ولا قدرة ولا إرادة لها في صنع ذلك. وبين كل تلك الأفكار برزت فئة أحب منطقها أكثر لأنها أتخذت الوسط وهي « الأشعرية»- أتباع أبي الحسن الأشعري- فقد فصلت بين الإرادة الحرة الإنسانية والفعل الذي يتبعها، فعندما يريد الإنسانُ فعلاً معيّناً بإرادةٍ مخلصة فإنّ اللهَ جل وعلا يخلق له الفعلُ وبهذا يكون الفعلُ مخلوقاً لله عند إرادة الإنسان، لا بإرادة الإنسان! وتذكر في الختام يا صديقي أن أصدقَ ما قيل في الاختلاف على الإطلاق من بدء الدنيا إلى أن يرثها الله، هو قوله تعالى في سورة النساء:» فإن تنازعتُمْ في شَيْءٍ فرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرسولِ». اليوم الثاني:سأصمتُ كي أعبر أفضل تعبيرٍ عن حبَّي شغلني سؤال «البهاء احمد التيجاني» سوداني مثقف من جدة، وينتمي لطائفةٍ صوفية في السودان: «يا أخي بما أنك مهتم بالصوفية وباحث بها أخبرني عن من قال إن الصمتَ عبادة عند الصوفيين؟». شكرا لك يا أخي التيجاني، وأنا لم أقل ولم أدع اني باحث أو مهتم في الصوفية، بل هي من ضمن قراءاتي عموما بأنثربولوجيا المعتقدات، ليس إلاّ. ونعم إن الصمتَ شغلٌ شاغل عند بعض الصوفيين وليس كلهم، فمن بين الصوفية في شمال أفريقيا ونواحي تركيا من جعل الصمت مقاما من مقامات الصوفية، وبالتالي لا يمكن أن أسميها عبادة، إنما لي أن أصفها كطقس من الطقوس، وهم يستندون إلى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:»من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت»، بيْد أن الصوفية حين دعوا إلى التقليل من مكالمة الناس إنما قصدوا أن لكل إنسان سرا، وأنه من المستحيل التعبير عن أسرار نفس أمام الآخرين بالكلام. وشاعرهم يقول: أفكر ماذا أقول إذا افترقنا وأُحكِم دائبا حجج المقالِ فأنساها إذا نحن التقينا فأنطق حين أنطقُ بالمحالِ ويعني إذن هنا المتصوف أنه ليس يقف عن الكلام أو يصمت لمعنى الصمت بذاته، ولكن لأن لا كلام باللغة يمكنه نقل شعوره الحقيقي تجاه محبوبه. ولعلهم أيضا – وقد قرأت تفاسير بذلك- كانوا يعنون «النور الإلهي» حين ينكشف للقلب باعتقادهم، فلا بد هنا للعبارات من أن يُقفل عليها بأقفال، ولا بد أن يسودَ الصمتُ لأنه حين ينبلج «الحقّ» فهيهات أن يكون ثمة بيانٌ، أو أن يكون ثمّة نطق! اليوم الثالث:هل يحق لي أن أغضب؟ وأجيب على سؤال «رنيم البلوي»: إني أغضب وبالذات على أخواتي، هل يحق لي أن أغضب؟» أعتقد نعم يا رنيم، يحق لك الغضبُ أحيانا إن لم يتعد الغضبُ للإهانةِ والتحقيرِ والشتم. كلنا بشر، وكلنا نغضب.. والغضبُ كما وصفته آنفا من الأفضل أن يخرج من أعماقِنا حتى لا يحرق أعماقَنا. إن إظهار الغضب والتعبير عنه بالأوقات التي تحتاج ذلك وليس فقط الغضب لمجرد الغضب، او التململ، أو الانتقاد الأناني، مطلوبٌ لصحّةٍ طيبة، فخنق الغضب خنق لكامل الأعصاب وستنعكس اختلالا مرضيا في النفس أو الجسم. الشعور بالغضب هو شعور كل منا له فيه نصيب، وإن تفاوتت الأنصبة. برأيي أن التنفيسَ عن الغضب هي حاجة إنسانية أساسية كأن تشعرين بالجوع، أو الوحدة، والتعب. تجوعين فتأكلين، وتشعرين بالوحدة فتبحثين عن رفقة، تتعبين فتتلمسين الراحة.. تغضبين وتنفسين عن غضبك. ولكن مثل أي حاجةٍ اساسيةٍ يجب أن ننمي مهارات التحكم بها وليس خنقها في أعماق النفس، ولا الاندفاع لها بلا رويّة. وأرى أن اكثر المهارات جودة في عملية الغضّب هي المغفرة والنسيان. فمع أننا لا بد من اختبار تجربة الغضب إلا أننا، وهذا قرارٌ بأيدينا، يجب أن نهبط بعد أن طار بنا الغضب إلى مدرج النسيان وأرض التسامح والسماح، وهنا تكون العملية أتمّتْ دورةً صحيّةً نفسيّة وإنسانية ومهارية. الغضبُ الذي يطول سيولّد الحقدَ، والحقدُ سيولد الانتقامَ، والانتقامُ سيرمينا بهوةٍ سوداء لا قاع لها، وسننتهي مرضى نفسانيين، وأرواحا يأكلها جمرُ الشقاء، ونحكم على أنفسنا بجهنم على الأرض. وأهم من نبدأ به في مسألة الغضب والتسامح هي أنفسنا. فمتى صفَحْتَ أرحتَ نفسك واستدلّيْت على مقبض مهاراتٍ تتحكم بها. وسيمكنكِ يا رنيم أن تذهبي لأخواتك متى أخطأنَ عليك وبعد أن نفَثْتِ ريحَ الغضبِ أمامهن، وتقولين لهن: «أنا أحبكن يا أخواتي مهما كان الوضع.. وأحب أن أسامحكن وأحب أن أنسى الموضوع.. وأحب أن أحبكن.» أنا متأكد بعد ذلك سيعطونك كل حقائبهن أو فساتينهن الغالية.. جرّبي! اليوم الرابع:قصة الجميلة البراقة «بحر النور» إنها ألماسة! قصة ألماسةٍ شغلت العالمَ من أول القرن السابع عشر حتى أواخر العقد الثاني من القرن العشرين. إنها أعظمُ قطعة ألماسٍ على الأرض، لم يوجد لها مثيل في سابق الزمان ولا في حاضر الأوان. ماسةٌ اشتهرت في دنيا المجوهرات المهول باسم «جوهرة المغول». وعليكم قصة هذه الجوهرة الأخاذة التي تأخذ بالنفوس وتدير الرؤوس؛ كانت معززةً عند قوم من الهندوسيين بجنوب الهند من القرن السادس عشر لا تُمَس من قريب ولا بعيد، تُحرس برجالٍ أقوياءٍ صناديد مهمتهم فقط حراسة معتقدٍ عتيد.. لكن يا إخوان يا كرام هل تعلمون أين كانت سيدة الجواهر، صاحبةُ الأَلقِ الباهر؟ كانت عيناً، نعم رحمكم الله كانت عينا لتمثالٍ عظيمٍ يمثل أحد صور الإله «شيفا» وهو نوع من الآلهة الأكثر تلونا وتدليعا عند تابعيه في الجنوب الهندي شعب «الماليالم»، وأكثر أناقة من «شيفا» شمال الهند» الذي يكسر الخاطر، مجردا من كل جوهرٍ نادر. في ليلة ليلاء مرّ لصٌ وكان جنديا فارّا من جيش الفرنسيس، وتسلق التمثالَ في ليلةٍ بلا قمر مقبلا على الخطر، وغرس أزميله في عين «شيفا» المبهرج وقلع عينه الجوهرة.. قام عُبّادُ التمثال صباحا، ولما اكتشفوا السرقة امتلأت قلوبهم جراحا. وبطريقة غامضة رؤيت الجوهرة بمدينة مدراس الجنوبية وقد يكون باعها الفرنسي، ثم رؤيت مرة أخرى في دلهي الشمال. مرت أعوام وتقالبت شهورٌ وأيام، وكادت الماسةُ تذهب إلى دثور حتى جاء يوم غزو ملك فخور، هو الملك الفارسي «نادر شاه» في أواخر العقد الثالث من القرن السابع عشر وانقضّ على المدينة، وعثر على «سيدة البحار» المكنونة، وأخذها ضمن مكاسب الحرب مكرمةً مصونة. الملك «نادر شاه» أصابه فيما بعد ما أصاب كل من ملك الجوهرة الشاهقة الروعة، قيل انها لعنة ملحوقة بها تحل بأي شخص يملكها.. والسير التاريخي يثبت ذلك، فالفرنسي اللص وجد ميتا دهسته الفيلة.. والملك «نادر شاه» ضمها إلى جوهرتين عظيمتين أخريين من جواهر المغول.. ولكن أصابت الملك «نادر شاه» لوثةٌ في عقلِه، وصار يرتعب من التقدم بالسن فأزهق روحَه بنفسِه.. والقصة يا أحباب يا كرام لا تنتهي هنا.. ولكن نور الصباح لاح، ونكملها بالعدد القادم إن كان الأمرُ متاح! اليوم الخامس:من الشعر الأجنبي أترجمه بتصرف للشاعر «هاري جراهام» بعنوان: أفا! هذه الأبيات لهاري جراهام هي من قمم الكوميدياء السوداء.. Oops! 'There been an accident', they said, 'Your servant's cut in half; he's dead!' 'Indeed' said Mr. Jones, 'and please, Send me the half that's got my key.' أفا! قالوا للسيد جونز» للتوِّ صار حادثٌ شنيع!» «وأن خادمك المسكين قُطع إلى نصفين.. ومات!» «اممم، حقا!» قال السيد جونز. طيب أعطوني النصفَ الذي به مفاتيحي!» اليوم السادس:كتابٌ أثّر بي كنت نائبا في اللجنة البرلمانية لدول شرق آسيا لما كنت في الشورى، وتعرفت على سفراء دولها ونمَت بيننا صداقاتٌ قويةٌ ما زالت قائمة، ومنهم سفيرا سنغافورةواليابان. أما سبب التركيز على هذين السفيرين مع أن الجميع كانوا أصدقاء (أرجعوا إن رغبتم لمقالي مع السفراء الثمانية) هو أنهما مفكران ومثقفان من طراز راقٍ جدا، خصوصا السنغافوري. وأحضر السفير مرة وفدا يابانيا تعرفت فيه على رجل مثقف منهم وصار لنا حديث جانبي مرة نتحدث عن عقلية الرواة والقصاصين وكيفية وظائفها، هل الجزء الخيالي أم الجزء المنطقي، أم الجزء السردي هو الأنشط في عقولهم.. ودلني رواية قال عنها: « سبب قيمة هذه الرواية أنها أعظم رواية في العالم لأعظم روائي عرفه العالم اسمه «هاروكي موراكامي». «موراكامي» من الأدباء الشباب الذين غيروا الأدبَ الياباني «الميجي» وقلبو الأدبَ والفكرَ على عقِب، أحدثتْ هيجةً عظمى عند معظم اليابانيين الفخورين بتراثهم الفكري خصوصا في العهد الميجي وأدب الساموراي. تابعت «موراكامي»، وأنهيت له أربع روايات وكتاب أنثربولوجي عن عصر الميجي.. وذلك بسبب تلك الرواية التي أهداني إياها السفير الياباني. كان عنوان القصة بالإنجليزية «South of the border, west of the sun» ويكون عنوانه بالعربية إذن «جنوب الحدود، وغرب الشمس» العنوان مبهم ضبابي غريب، ولكن هي طريقة العناوين اليابانية وقد تقرأ القصة كاملة أكثر من مرة كما فعلت أنا ولكن لا تعرف لمَ كان ذاك العنوان تحديدا. المهم، أن الرواية مذهلة جدا، روايةٌ بخط مستقيم لا التواء فيه مهما كان مصادما، وفيها براءة صامتة أخفاها المؤلفُ بعبقريةٍ في مكان ما في كل صفحة بالقصة، وفيها مرحٌ طفولي كأفلام اليابانيين المتحركة، إنها تتكلم عن «هاجيمي» و»صاحبة الاسم الحلو شيماموتو» ومن حقكم أن تعرفوا أني لست من يقول «الاسم الحلو» هي اسمها كذلك مع لقب الاسم، وايضا عادة جرت عن أهل اليابان. القصة عنيفة حتى انك تقوم من مكانك أو ترتخي قليلا ثم تتابع، ورقيقة منسابة هادئة لطيفة عطرة حتى تغمرك بمشاعر حريرية في عالم غائم وغامض من الدوْخ العاطفي. تصادق الاثنان أيام الدراسة ثم افترقا ثم التقيا بعد سنين وقد شبّا. وقصة لقائهما أكثر قصة متهشمة كزجاج يتناثر طائرا في الهواء قرأتها في كل عمري، وفي نفس الوقت فيها نفَسُ السكونِ والتأمّلِ وسحرِ العبارة، وكأنك تقرأ قصيدةً سابحةً في بحر البديع. خرجتُ بأن «ماروكامي» لا يمكن القول أنه أعظم من كتب رواية في الدنيا ولا روايته كذلك.. ولكنها تجربة قراءةٍ مذهلةٍ وغريبةٍ لا تُنسى. اليوم السابع:ذكائي الخارق! وصلتني رسالة بوصف مرقّم من صديقٍ ساخر عزيز علي جداً، لا يحب ذكر اسمه، معبّرا، جزاه الله خيرا، عن ذكائي الخارق: 1- نجيب يدخل المستشفى كثيرا ولا يعرف سرّه إلا أنا، لأنه يحتاج تغذية عقلية متكررة! 2- أقرأ مقالاته، وأجد أن أذكى عبارات كتبها هي: «أهلا بكم في مقتطفات الجمعة»، وإلى لقاء قادم في النزهة الأسبوعية».. فقط! 3- يحاول دوما أن يبدو ذكيا، ولكنه استنفذ كل مخزونه من الذكاء لأنه استخدم عقله مرتين، وكانتا أكثر من المسموح لإمكانيات عقله! 4- لو كانت هناك بلادٌ اسمها «بلاد الذكاء والأفكار» لكان نجيب الأقلية الوحيدة فيها! ****ألقاكم بإذن الله في النزهة القادمة..