فيلمان مستوحيان من روايتين للياباني هاروكي موراكامي يعرضان في موسم أعياد العام الجديد الذي سيشهد أيضاً صدور الترجمة الإنكليزية لأحدث رواياته. الفيلم الأول «كل أولاد يرقصون» أنجزه المخرج السويدي الأصل روبرت لوغفال منذ العام 2007، والثاني هو «الغابة النروجية» للمخرج الفيتنامي الفرنسي آن هونغ تران. وبذلك، يكون العرضان متزامنين مع ترقّب في الغرب للنسخة الإنكليزية من ثلاثيته الروائية «1 كيو 84»، المستوحى عنوانها من كتاب جورج أورويل الشهير «1984» (إذ ترادف لفظة «كيو» الرقم تسعة باليابانية)، وذلك بعد أشهر فقط على صدور الجزء الثالث منها. كالعادة، لم يتأخر المترجم «المعتمد» لأعمال موراكامي منذ العام 1989، جاي رون، وهو أستاذ سابق لمادة الأدب الياباني في جامعة هارفرد. انكبّ على أحدث أعمال «الكاتب الذي لم يؤخذ بأسلوب أحد مثله مذ كان طالباً جامعياً مهووساً بدوستويفسكي، وانتهى قبل أيام من نقلها إلى إحدى اللغات الاساسية لانتشار الروائي تالياً بمختلف ألسن العالم. صعد نجم موراكامي، المقروء اليوم بأربعين لغة، من بينها العربية، استثنائياً خلال العقد الأخير. بات اسمه متداولاً على لوائح الترشيحات لجائزة نوبل للآداب، كما في «سوق الكتاب» عالمياً، حيث انضم إلى مجموعة «الأكثر مبيعاً»، في اليابان وخارجها. ونال كمّاً من الجوائز، أبرزها جائزة فرانز كافكا، وجائزة يوميوري التي منحه اياها من كان ذات يوم واحداً من أقسى منتقديه، أي مواطنه حائز نوبل للآداب – 1994 كينزابورو أوي. إضافة إلى شهادتي دكتوراه فخريتين من جامعتي لياج البلجيكية وبرينستون الأميركية. وبذلك، يبدو موراكامي جامعاً لطرفي مجد، قلما يتسنيان لروائي على قيد الحياة، حتى ولو اعتبر من كُتّاب الصف الأول: الاعتراف الأدبي في الدوائر الإبداعية المرموقة من جهة، والشهرة الشعبية - التجارية من جهة ثانية، لا سيما بين الشباب (الياباني والأجنبي). تأثر كثيراً بالثقافة الغربية، والأميركية أكثر من غيرها. وفي الوقت نفسه، توسّع خياله، ذو النكهة الخاصة، ليصبح ملهم العديد من الكُتّاب والمسرحيين والسينمائيين في أوروبا والولايات المتحدة. فاستوحت منه المخرجة صوفيا كوبولا بعض فيلمها «ضائع في الترجمة». وكتب دايفيد ميتشل، الذي رُشّح لجائزة بوكر مرتين، رواية «الحلم الرقم 9»، التي تعتبر بمثابة تحية خفرة ل «الغابة النروجية» وبالذات من طريق استعارة العنوان من أغنيات فريق البيتلز. قد يتساءل المرء عما إذا كان موراكامي استفاد من ماكينة ترويجية تلقّفت «غرابة» عوالمه الغامضة، الممتزجة بمخزون تأثره بالموسيقى والسينما والأدب في المقلب الثاني من الكرة الأرضية، ما جعل ذائقة العولمة تسارع إلى تبنّيه... أم أنه وقع على الوصفة السحرية التي تجعل الإبداع يتجاوز خصوصيته المحلية إلى مساحة «كونية»، حيث الموضوع هو المكنون البشري بالمطلق، وتفاعلات الذاكرة مع حاضر الاغتراب والخواء الداخلي. خصوصاً أننا في عصر لم يعد أبناؤه يلتفتون إلى «مرشد» متبصّر يقدم حلولاً أو أجوبة، بقدر ما ينجذبون إلى «عادي» من صفوفهم يجدّد في طرح أسئلتهم ويعمّقها. ربما يظل التساؤل أعلاه معلّقاً، ورهن تفاوت الموازين الثقافية والنقدية، في بلد المنشأ كما عبر الحدود. والأرجح أن يتعايش الافتتان مع الارتياب الموضوعي، فتظل مبيعات كتب موراكامي تقدّر بملايين النسخ خلال الأشهر القليلة الأولى على نزولها الأسواق، وخلفيتها رأي بعض أبرز رموز المؤسسة الثقافية اليابانية فيه بأنه «موجة» جماهيرية في الداخل، و«هيصة» إكزوتيكية في الخارج تزاوج بين الشرق والغرب في تعبيرات الثقافة السائدة (اتهمه كينزابورو بأنه «فشل في تقديم نموذج عن مستقبل اليابان» فيما اعتبر نقّاد آخرون أن «رائحة الزبدة» تفوح من أعماله المغرقة في أميركيتها، والمقصود التلميح إلى الأطعمة الأميركية المشبعة بالدهون). غير أن المؤكد هو أسلوب موراكامي المتفلّت من المعادلة الأدبية اليابانية المكرّسة، على الأقل في عيون المهتمين من غير اليابانيين، بكتّاب من مصاف ميشيما وكاواباتا وتانيزاكي. ارقص وراهِق... «توقفت الخطوات. صارت بمحاذاتي. الشيء بات قربي. عيناي مغمضتان... عرفت أني مرتبط بهذا المكان. أنتظرك منذ زمن، قال. ادخل، عرفته من دون أن أفتح عيني... لا مقاعد في الغرفة. جلسنا على رزم الكتب... إنها غرفة الرجل الخروف... أخبرته أني أخسر هيئتي. أنسجتي تقسو. تتجمد من داخلها. وكم تخيفني. ارقُص، قال لي. إنه السبيل الوحيد... لعل هذا المقطع من رواية «ارقص، ارقص، ارقص» يمثّل لعبة موراكامي الروائية أيّما تمثيل. نعم، هو يلعب ويستمتع بذلك، قبل أن يمتع قراءه، كما قال في إحدى المقابلات الصحافية. وإذ يشعر من يقرأ أكثر من رواية ممهورة بتوقيعه أنه أمام خط شبه ثابت للأحداث والحالات التي تعتري شخصياته، إلا أن خطته تنجح، كل مرة. يوقعك في شباك سورياليته وفانتازماته المحبوكة بسلاسة مذهلة مع عُقد الحياة اليومية التي لا تلبث تتخذ منحىً وجودياً! غالباً ما يقدّم موراكامي شخصياته على أنها متوسطة في كل شيء، لدرجة أنها تكاد تكون غير مرئية في أثناء سعيها إلى العيش يوماً بيوم. ثم يقع خطب، ويظهر مرجع خارق بمعنى ما، فيغيّر مسار الشخصية التي تتفتّق عن عمق يستدعي التماهي معه، من جانب أيٍّ كان، أينما كان في العالم. قد يكون المرجع هو «الرجل الخروف» الذي يسكن غرفة في فندق لا أحد يعلم بوجودها ويكتشفها بطل الرواية بالصدفة. أو لعله الرجل الذي يشبه والد البطل في «كل أولاد الله يرقصون»، يلتقيه الأخير في القطار ويقرر تتبّعه عبر شوارع مقفرة وأزقة معتمة، ثم يضيّعه ليجد نفسه في ملعب بايسبول مهجور، وهناك يقف عند زاوية رامي الكرة ويشرع بالرقص. الرقص، كما يبدو، مجاز عضوي متكرر في كتابات موراكامي المولع بالموسيقى الكلاسيكية وفرق البوب الأميركي، هو الذي امتلك وأدار حانة جاز طوال سبعة أعوام، قبل أن يتمكن من الاعتماد على مردود رواياته. فيكاد يستحيل أن تقرأ له رواية ولا تقع على اسم مقطوعة لروسيني أو بيتهوفن أو موتسارت. كما أن الكثير من عناوين رواياته مأخوذ عن أغنيات البوب الغربي (البيتلز، بيتش بويز، نات كينغ كول ...)، ما يؤكد طلاقه لحفلات الشاي وحكايات الغيشا والساموراي التي تزخر بها الرواية اليابانية التقليدية. ذلك أن هاروكي المراهق، حفيد الكاهن البوذي، و «الابن الضال» لمدرّس الأدب الياباني في المرحلة الثانوية، انغمس في قراءة بلزاك ودوستويفسكي وتشيخوف وديكنز. وينقل عنه قوله: «لو قرأت الأدب الياباني لاضطررت إلى الحديث عنه مع والدي، ولم أكن أريد ذلك». وإن غامر قارئ مقابلاته الصحافية باستخدام المجاز الموراكامي في وصفه، فلا يسعه إلا أن يرى الرجل، المولود عام 1949، كبسولةً تتكثّف فيها ملامح جيل فتح عينيه على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (جيل «بايبي بومرز» بالإنكليزية). أولئك أقرانه الذين راهقوا وشبّوا في الستينات، وصنّفهم علماء الاجتماع بِسِمة رفضهم تقاليد أهلهم وموروثاتهم، كساعين إلى ابتكار بدائل لها، ومعرّفين لأنفسهم بذواتهم كجيل مختلف جذرياً، بهواجس ورؤى يُنتظر أن تغيّر وجه الكوكب. ربما، لهذا السبب، غالباً ما تظهر شخصية مراهق (ة) في روايات موراكامي، تتفاهم مع البطل الراشد وتتحدّاه. إذ يبدو أن المراهَقة، كمرحلة معروفة بتأزمها النفسي والاجتماعي، تعبّر عن هوى الكاتب بالتيمة - الأزمة هذه، وهو لا يقصّر في تكليلها بالحكمة الأولية وبأسئلة لا ترضيها المُسَلّمات. فحتى الحب، عنده، يمسي أفقاً لمستقبل الذات. وجهة قد لا يتم بلوغها، لكنها تبثّ ضوءاً من الداخل على الداخل. قطط وأشياء أخرى مجدداً، لا تنتهي الاستعارات المتكررة في أسلوب موراكامي ذي الشطط الخيالي اللذيذ. فمنها ما يدور حول القطط التي ينبئ ظهورها (أو اختفاؤها) بوقوع حدث غريب ذي جانب فلسفي. في «كافكا على الشاطئ» رجل متقاعد يحكي لغة القطط ويتعرف الى حكيم من الفصيلة يسوقه إلى سرّ خلاص العالم، فيما تنطلق سلسلة أحداث سوريالية إثر هرب القطة في «يوميات طائر الخواتيم». وهناك البئر - بالأحرى أن يجد المرء نفسه في قعر بئر - كاحتمال مشحون، يرتبط غالباً بسويّة النفس والعقل (ما يذكّر بمنحى التحليل النفسي الفرويدي). ففي قاع بئر قديمة يقضي بطل «يوميات طائر الخواتيم» إجازة ميتافيزيقية مفكّراً في لغز اختفاء زوجته، وفي القعر المظلم فقط يكون متأكداً من أنه ليس مجنوناً. وفي «الغابة النروجية»، تخشى البطلة صحّة الأسطورة القروية القديمة عن بئر لا أحد يعلم مكانها، ولا تصوينة تزنر فوهتها، قد يقع فيها المرء في أي لحظة، ولا مخرج له منها. تقول لصديقها هذا الكلام قبل أن تدخل مصحّ الأمراض العقلية ثم تنتحر. ولعل رمزية المخفيّ والمهزوز، تحت قشرة من تراب أو أسفلت صلب لا ينوء بأقدام المشاة، تستحوذ على منهجية تفكير موراكامي نفسه. إذ يقول إنه يشطب المسؤولية أو العدالة الأخلاقية من «واجبات» الرواية وكُتّابها، مستعيضاً عنها بواجب ابستمولوجي لمحاولة فهم الحياة والبشر... من تحت إلى فوق. وبالمنطق هذا وضع عمله اللاروائي الأول بعنوان «تحت الأرض»، مُوَلّفاً مجموعة مقابلات أجراها مع ناجين من الهجوم الذي نفذته مجموعة «أوم» المتطرفة باستخدام غاز الأعصاب في قطارات أنفاق طوكيو (1995)، ومع بعض أعضاء المجموعة. يقول له أحد المعتدين إن أكثر ما كان يتعبه هو أنه ما عاد يجد من يتحدث إليه في الأمور التي يكترث لها فعلاً. نقاش ولهو لا شك في أن بعض النقد المحيط بأعمال موراكامي جدير بالنقاش. بل إنه قادر على استنهاض إشكاليات تتعدّى الشخص لتغني السجال الثقافي في الشرق والغرب على السواء، بدءاً من هيمنة الرأسمالية وتجليات العولمة، وليس انتهاء بمأزق التعددية أو الهويات وتهميش الإرث الثقافي لشعوب ما بعد الحداثة. لكن موراكامي، الذي كتب روايته الأولى ابنَ تسعة وعشرين عاماً، بوحي من مباراة بايسبول حضرها، يقدّم في المقابل صيغة بسيطة بقدر صعوبة منالها. صيغة للقصة القصيرة (بعض قصصه مجموعة في كتابين مترجمين بعنواني «الفيل يختفي» و «الصفصافة العمياء، المرأة النائمة») كما للرواية: «بالنسبة إليّ، القصة القصيرة هي حقل لتجربة الأفكار الجديدة. لا أحتاج إلى هيكلية أو بناء. الجمال هو أنه يمكنني الانطلاق من أي شيء: ذكرى تسكنني، حلم، أو حوار التقطته بالصدفة في مطعم». ويروي إنه، ذات مرة، وضع لائحة بكلمات وأفكار متفرقة. ثم اختار، عشوائياً، مجموعات من ثلاث كلمات، ليبني قصة حول كل مجموعة: «كأنها لعبة، كنت ألهو، فمن دون اللهو يصبح الاستمرار في الكتابة قاسياً ومؤلماً». أما الرواية فهي مسؤولية، لكنها تختلف تماماً عن المعيار الوعظي. فهي، برأيه، غير معنية برسم الحدود بين الخطأ والصواب، أو صوغ العِبر والمعاني مهما كانت: «مسؤولية الرواية أن تحمل القارئ، في النهاية، إلى مكان أفضل من الذي كان فيه لحظة بدء القراءة. فالرواية الجيدة تمسي جزءاً من خيالك وتمنحك مساحة جديدة لذكرياتك الخاصة بك وحدك».