دخلت على «الشيف محمود» في مطبخه وهو يتفنن في تزيين أحد الأطباق البحرية ، والحيوية تفيض من عينيه رغم بلوغه السادسة والستين من عمره ، فقلت له ألم تمل من الطبخ يا عم محمود ؟ ، فقال لي : أنا أعزف بالسكين أجمل المقطوعات عندما أمررها على أوتار البصل والجزر والطماطم ، ورائحة الطعام فوق النار تذكرني بعطر الأميرة الفاتنة ليلة زفافها ، وكلما جلست أنتظر استواء الطبخة أتذكر انتظاري لعشيقتي في يوم لقائنا الأول ، وفي يوم إجازتي أجرب طبخات ونكهات جديدة ، لا تستغرب يا عبدالله فأنا أطبخ منذ أربعة وأربعين عاماً ومازلت شغوفاً بالطبخ !!.. لقد كشف الشيف محمود لنا سر الإبداع المتجدد ، إنه «الشغف» الذي يجعلنا في أرقى درجات الفتنة وأجمل حالات الهيام . «الشغف» وقود نووي في دواخلنا يسطر في حياتنا الأعاجيب ، ويدفعنا لاقتراف الجميل بكل لذة ، فالمتع الدائمة نشعر بها إذا لم تنطفئ جمرة الشغف . أهدافك في الحياة يتجدد فيها الإغراء إذا استمر الشغف ، وتكون في حالة تربص دائمة بالإبداع والإنجاز ، وستكون متمرداً ناجحاً على الفشل والروتين ، وستشاهد الملل ينتحر أمامك في ساحة الشغف العظيم . لذة الحياة مرتبطة بالشغف الإيجابي لأنه يبقينا دائماً مع جمال الدهشة وجنون الفكرة وتوقد الرغبة ، فالشغف يجعل جوارحك تركض خلف آمالك دون توقف ، وتتحول العثرات إلى متع في فن التجاوز . وإذا سألتني عن مكان الشغف المفقود سأدلك على مثلث (مواهبك واحتياجاتك وطموحك) فبينها ستجد جذوة الشغف التي علاها رماد الحياة الكئيب ، ولا تربط الشغف بالحاجة وحدها لأنك إذا اكتفيت سيموت هذا الشغف ، والناسك الشغوف بمناجاته يزيده القرب من الله شوقاً إليه ، وعندما تصل إلى منجم الشغف ستدرك حينها أن شهوة التواصل العابر نزوة لا مكان لها . يقول الروائي البرازيلي باولو كويلهو : (يرسل الشغف إلينا إشارات لنهتدى بها فى حياتنا , ويجب أن نعرف كيف نفك رموز هذه الإشارات) ، فإذا ضاعت هذه الإشارات فإننا سرعان ما نفقد بوصلة المتعة في أعمالنا . ليس المعلم الناجح من يعطي المعلومة للطالب ، بل من يذيقه لذتها ويقذف في قلبه شغف البحث عنها ، فشغف البحث هو من يجعلنا نلتهم الكتب ، ونراقص الكلمات طرباً على مسارح المجلدات ، والإنجازات الرائعة دائماً ستجد خلفها قوة جارفة من الشغف . إن الشغف يعيد شكل تواصلنا مع الحياة ، ويجدد صور الحب والجمال التي أبلاها دولاب الأيام ، وإذا أخبرتني بأنك مازلت على قيد الشغف فسأخبرك بأنك مازلت على قيد الحياة .