في كل تعامل لنا مع كفيف يبهرنا بقدرات متعددة ليس فقط في قدرته على خدمة ذاته في كثير من الأمور ولكن في توقفه عند تفاصيل دقيقة في تعامله مع الآخرين حتى انك قد تتساءل : هل هذا فعلاً لا يبصر ؟! كيف يعرف أني أتحدث اليه وأنا أدير له ظهري ؟ كيف يعرف أني كنت واقفاً ؟ كثير من الأسئلة نبحث عن إجابات لها ونجدها عندما نتعامل معهم عن قرب ونرى كيف يستخدمون حاسة السمع بشكل لافت لا يعرفه المبصرون فهو يحدد قربك منه وطريقة وقوفك أو جلوسك من صوت أنفاسك. كنت أتحدث يوماً مع طفلة كفيفة لم تتجاوز العاشرة من العمر وكنا يومها في قاعة عمل وقيل لنا ان رجلاً سيدخل ليقوم بعمل ما. كثير منا لا يحسن الحكم على كفيف البصر، لأنه يفوقه في الاستفادة القصوى من أعضائه. أما المبصر فهو باعتماده على البصر يعطل الكثير من قدرات الأعضاء الأخرى، بل ويعطل بعض ما يمكن أن ينبئه به ضميره كما قال الشاعر وهو يعني إحساسه وروحه التي تبحث عن الجمال ليس جمال الخارج فقط، بل جمال الروح التي تحس بلا عينين ولا أذنينفجأة وجدت الصغيرة تقول لي: أنت مثل فلانة لا تغطين وجهك. أبهرتني ملاحظتها الدقيقة التي لو حاولنا نحن أن نحاكيها فيها لما استطعنا أن نفرق بين صوت يأتي من خلف نقاب وصوت لا حائل بينه وبين أذن من يستمع، ومثل هذه الصغيرة كان الأكفاء يثيرون الأسئلة في أشعارهم عندما يصفون شيئاً ويبدعون في وصفه من خلال الأذن واليد فيتابعون الأصوات وهي تدلهم على كثير من الأمور ويضعون أيديهم على الأشياء فيتعرفون عليها ويفهمونها ويحفظون تفاصيلها، ومن أشهر أبيات الشعر للمكفوفين قول بشار بن برد : يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا ها هو الرد ببساطة شديدة قدمه لنا الشاعر لينهي تعجبنا من حاله وغيره ممن فقدوا نعمة البصر. فالأذن كفيلة بالوصول للقلب لتقدم له ما يريد عن طريق الإحساس، ويقول شاعر آخر غير معروف ( وقد نسبت الأبيات لبشار أيضاً) : وكاعب قالت لأترابها يا قوم ما أعجب هذا الضرير هل تعشق العينان ما لا ترى فقلت والدمع بعيني غزير إن كان طرفي لا يرى شخصها فإنها قد صورت في الضمير كثير منا لا يحسن الحكم على كفيف البصر، لأنه يفوقه في الاستفادة القصوى من أعضائه. أما المبصر فهو باعتماده على البصر يعطل الكثير من قدرات الأعضاء الأخرى، بل ويعطل بعض ما يمكن أن ينبئه به ضميره كما قال الشاعر وهو يعني إحساسه وروحه التي تبحث عن الجمال ليس جمال الخارج فقط، بل جمال الروح التي تحس بلا عينين ولا أذنين. وفي أبيات أخرى يقول الشاعر موفق الدين العيلاني وهو يعلل حبه إحداهن لمن تعجبوا من ذلك : من أين أرسل للفؤاد وأنت لم تنظره سهما ومتى رأيت جماله حتى كساك هواه سقما والعين داعية الهوى وبه تنم إذا تنمى وبأي جارحة وصلت لوصفه نثراً ونظما فانظر كيف جاء جوابه على تلك التساؤلات بتعليل بارع غير مسبوق: فأجبت إني موسوي العشق إنصاتاً وفهما أهوى بجارحة السماع ولا أرى ذات المسمى عشقه الموسوي نسبة إلى موسى (عليه السلام) كليم الله. ومن أجمل قصائد الشعراء المكفوفين قصيدة يا ليل الصب التي نسبت لكثيرين، لكن الأرجح انها للحصري القيرواني وفيها يقول : كلف بغزال ذي هيف خوف الواشين يشرده نصبت عيناي له شركاً في النوم فعز تصيده .. صنم للفتنة منتصب أهواه ولا أتعبده صاح والخمر جنى فمه سكران اللحظ معربده ألم يستوفقك هذا الربط الجميل والذكي بين تراخي الصوت وبطء الحديث والنظرة السكرى. لم يقف فقد البصر حائلاً بين الشعراء وخيالهم وإعمال فكرهم فكانت قصائدهم للمبصرين ثراء. @amalaltoaimi