مهما طالت سنوات أعمالنا وزادت في الوظيفة أعمارنا فلا بد من لحظة الوداع والخروج من بوابة التقاعد التي تنتظر كل موظف ليبدأ مرحلة جديدة، فكما غادر من كان قبلنا، سنغادر يوما ما ليأتي من بعدنا وتستمر عجلة الحياة، لكن تبقى ساعات الوداع ولحظات توديع الزملاء من اللحظات التي تبقى عالقة في الذاكرة المكتظة بالعديد من المواقف التي لا تنسى. تلقيت دعوة لحضور تكريم أحد المسؤولين التنفيذيين المتقاعدين والذي أمضى 43 سنة من الخدمة المتواصلة، شاهدت كيف كان يحييه ضيوفه بحرارة ودفء تغلبت على برودة الشتاء في تلك الليلة القارسة، وكيف كان ذلك المسئول المحتفى به يستقبل ضيوفه ومحبيه في تلك الأمسية بنفس الود والحميمية، ففي مثل هذه المناسبات تلعب المشاعر دورا كونها لحظات الوداع وخاصة عندما يتحرك شريط الذكريات للوراء فتبرز المواقف النبيلة التي بنيت على الاحترام المتبادل والوفاء داخل شرايين المحبين فتتحول تلك المشاعر الداخلية إلى كلمات معبرة وأبيات شعرية عذبة رقراقه صادقة، لو لم تكن كذلك ما طلعت، لأنه لن تستطيع أن تجبر موظفا أن يقدم لك هدية أو يكتب فيك أبياتا من الشعر أو يقطع مسافات لكي يشاركك لحظة وداعك لو لم يكن بداخله ما يكنه من محبة ووفاء.. ببساطة - المشاعر الصادقة لا تباع ولا تشترى! لقد وجدت الجواب للسؤال الذي دار بخلدي، عندما شاهدت العدد الكبير من الحضور والهدايا الجميلة والقيمة ذات الأحجام المختلفة التي تم تقديمها للمحتفى به وكيف كان تسابق الشعراء للمشاركة في تلك الليلة، ليلة التكريم والوفاء، فيما قاله عنه بعض القياديين في الشركة، بأن المحتفى به شخصية قيادية وملهمة لمن يعمل معه فقد تميز كذلك بميزة أعتقد أنها أساس محبة الناس له، التواضع والصدق والكرم مع الآخرين وكان حريصا على زيارة الموظفين في مواقعهم النائية باستمرار لكي يتحسس نجاحاتهم ويتلمس احتياجاتهم، وهذه رسالة لكل من تسلم زمام القيادة، أن يعمل بصدق وتواضع وأن يجعل سلامة الموظف وتلبية احتياجاته من أولوياته. فالصدق والتواضع والاهتمام، من الصفات المطلوبة في القائد ليتحقق النجاح، لأنه مع غياب الصدق سيحل الكذب والنفاق، ومع غياب التواضع ستعشعش الفوقية والغطرسة، وعندما يغيب الاهتمام سيخلق فريق عمل محبط، فالقيادي الناجح من لا يتجسس على موظفيه بحثا عن السقطات وكأنها إنجازات، بل نجده يتحسس ويتلمس مكامن الإبداع في كل من يعمل معه ليبعث فيهم التحفيز والاجتهاد لتحقيق المزيد من النجاحات، والأجمل من هذا كله أن يشعرهم بأنهم شركاء في النجاح، وبعد التقاعد يقطف ثمار ما زرعه حيث يستمر الحب والاحترام فالمشاعر الصادقة لا تتقاعد ولا تتباعد لأنها بلا تاريخ صلاحية!