محمد إبراهيم فايع أرسل لي أحد الأصدقاء بمقطع فيديو لحفل تقاعد معلم بإحدى المناطق، كانت هناك لقطة توقفت عندها كثيرا في الحفل، وأدخلتني في أرق أسهر عينّي تلك الليلة وأنا أتذكر طعم الوفاء ولذته وكيف أنه أصبح في زمننا هذا عملة نادرة، حتى طال ليلي فشكوت بقول أمرؤ القيس "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل"، كانت اللقطة بالنسبة لي، بمثابة احتفالية خاصة، داخل احتفالية تكريم ذلكم المعلم في يوم تقاعده، اللقطة الأجمل كما بدت حين تقدم أحد الطلاب ليسلم على معلمه، ويقدم له هدية خاصة، وبينما كان يهم بطبع قبلة على رأس معلمه، بكى الطالب تأثرا بوداع معلمه، وكأني به أحسّ بلحظة فراقه أكثر من غيره، وأنه في الغد لن يراه، وكأن لسان حاله الصغير قول الشاعر: "يا راحلا وجميل الصبر يتبعهُ هل من سبيل إلى لقياك يتفقُ" مشهد يعجز عن وصفه القلم ليصور لحظة وفاء طالب صغير شعر أنه يودع من علمه حرفا بالأمس، فكانت دموعه خير شاهد على حبه لمعلمه، وكأنه أمام مشاعره الصادقة البريئة يقول: "لهيب قلبي أفاض الدمع من بصري والعود يقطر ماء حين يحترق" فما كان من بعض الحاضرين مع المحتفى به، إلا أن وقفوا على أقدامهم يقبلون رأس هذا الطالب الوفي الذي استسلم لدموعه الصادقة، لقد كان المشهد يحمل أكثر من معنى، ومن المؤكد أن من يعلم حجم العلاقة بين المعلم والطلاب عندما تصب في جانبها الإيجابي، علاقة يكون قوامها التقدير والاحترام والحب بين الطرفين، سيعلم كم لها من أثر كبير في تعميق محبة المعلم في نفوس طلابه، حينما يكون المعلم عاشقا لعمله، صادقا فيما قدم، ناجحا في أدائه، ملتزما في سلوكه، قريبا من طلابه، حنونا في تعامله، أبويا في رعايته، محبا لرسالته التعليمية، مدركا تأثيره القوي على طلابه، فلن يستغرب هذا المشهد "الوفائي" وأي تكريم أجمل وأعظم من الوفاء اليوم، في زمن عزّ فيه وندر الوفاء بين الناس، وكما قيل: "يا باني الأجيال جهدك خالد أحسن بناءك كي تكون مكرما" المعلم حينما يمتلك سمات مهنة المربين ويخلص في ميدانه، ويلتزم برسالته وواجباتها وضوابطها، ويشعر بالمتعة وهو يمضي مع أنسام صباحات كل يوم نحو مدرسته، مدركا عظم الأمانة التي حملها، فبدون أدنى شك سيدرك أنه تربع وسط قلوب طلابه، وأنه سيعز عليهم يوم تقاعده فراقه، وأن لحظة وداعه لن تكون سهلة على قلوبهم الصغيرة، ولن يحتملوا غيابه حينما لن يروه ذات صباح اعتادوا أن يدخل عليهم كعادته في كل يوم وقد رسم ابتسامة تشرق محياه، ولن يقووا على إخفاء مشاعرهم الصادقة التي سيذكيها ألم فراق من ألفوه كل يوم معهم وبهم في قضاء يوم كامل، وسيعز عليهم وداعه، وسيبكونه كما بكى ذلك الطفل يوم تقاعد معلمه في ليلة لن تنسى في حياة ذلك المعلم.