يبدأ تدرب الإنسان على النفوذ منذ شعوره الأولي، حين يجرب ممارسة نفوذه على محيطه وعالمه بلمس الأشياء وتقريبها من فمه، كآلية اكتشاف يتمكن من خلالها التعرف على الموجودات، ولهذا فكثيرا ما يتساءل البعض عند حملهم رضيعا ما هل يرغب في عضِّهم أو تقبيلهم، غير أن تلك الطريقة هي نفوذ الطفل إليهم للتعرف عليهم. يمارس الطفل ذلك النفوذ مدفوعا بمبدأ اللذة الذي يسعى من خلاله لتحقيق الإشباع العضوي والنفسي، ومع المدة سيبدأ هذا النفوذ بالخضوع لضوابط عديدة، فليس كل ما يرغبه سيتحقق ولن يتم إشباع كل الرغبات بسهولة، فهناك نظام وفروض، ومن خلال هذه العملية سيتعلم مبدأ «الخضوع» خلال سنوات التربية، فما أن تبدأ شخصية الطفل بالبروز حتى يبدأ صوغها وتشكيلها حسب قالب معين أو تبعا للمعايير الاجتماعية والدينية الثقافية والجغرافية التي يعيش فيها الطفل، أو بالأدق «والدا الطفل»، وتبعا للتوازن النفسي لدى هؤلاء المربين سيترتب مدى إخضاع أو تعزيز النفوذ النفسي لذلك الطفل، وبهذا يتم نحت شخصيته حسب نمط الوالدين أو المربين الذين ينضون تحت نظام ثقافي معين، تلزم الطفل بالتحرك ضمن حدود النظام. ويهمنا هنا أن نتساءل حول آلية «الخضوع» التي ينتهجها الطفل، فهل يستسلم، أم يختار الخضوع كآلية تكتيكية لنفوذ مؤجل؟ فحين ترتفع السبابة المتوعدة أمام المنع، تنشأ العدوانية في شخصية الطفل ضد أحد الوالدين الذي يحرمه هذه المتعة، ويتم اللجوء إلى الخضوع كتزييف للمشاعر الداخلية الغاضبة، التي قد يجلب الكشف عنها المزيد من الألم والعقاب، فيختار الطاعة والاستسلام ليحمي نفسه من خطر فقد محبة والديه أو رفضهم له، عبر التجرد من رغباته وشخصيته، وإخضاع أناه المتفردة وخنق بصمته، فهو يكسب رفاهيته النفسية وخضوعه مقابل التجرد من نفوذه، وهكذا تبدأ لعبة الخضوع والذوبان في الحشود، والتي يعبر عنها هرمان هسه في إحدى رواياته، «لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية، فلم كان ذلك بهذه الصعوبة؟».