حين أتينا للعالم لم يكن لدينا معنى لأي شيء مخيف أو مزعج، فكنا نضع في فمنا كل ما تلمسه يدانا، ونتأمل ما حولنا بعينين متسعتين من الدهشة، مستغرقين في عيش لحظتنا بكل أبعادها، ومع استكشافنا لعالمنا الجديد واتساع دائرتنا فيه، بدأنا تلقي سيل من الرسائل عن معنى وتفسير الأشياء، ومنذ اللحظة التي أصبحنا فيها أكثر قدرة على الاستيعاب بدأ من حولنا إغراقنا بالكثير من المفاهيم والتعليمات حول ما يجوز وما لا يجوز، وما يجب وما لا يجب، وبطبيعة الحال فالوالدان هما المصدر الأول، ورغم أنهما كانا يبذلان جهدا صادقا للحماية والتربية، لكنهما كانا يمرران الكثير من القناعات المبرمجة من والديهما، والتي تعلماها بدورهما من والديهم وهكذا دواليك، فالكثير من الناس يتوارثون اعتقاداتهم الجوهرية عن الحياة بدون تمحيص أو فلترة. يدرك أكثرنا وجود عقله الواعي لأنه المكان الذي نعالج فيه أنواع المعلومات، ونحلل الأمور ونفهمها، ونهجس بها وننتقدها، فالعقل الواعي كالشخص المجتهد الذي لا يعرف الكلل، ويدور من غير انقطاع متنقلا من فكرة لأخرى، ولا يتوقف إلا عندما ننام ثم ينطلق من جديد لحظة استيقاظنا، ولا يكتمل تطوره إلا مع وصولنا مرحلة النضج الجنسي، أما عقلنا اللاواعي فهو الجزء غير التحليلي من الدماغ، الذي يكون مكتملا منذ ولادتنا، والمسؤول عن المشاعر والغرائز، لكنه لا يتمتع بأي فلترة، فهو يصدق كل ما يقال، ولا يعرف الفارق بين الصحيح وغيره، فإذا أخبرنا أهلنا أن كل الأثرياء متعجرفون فنحن نصدقهم، وأن الزواج يعني متاعب وهموما لا تنتهي فسنقتنع، فالعقل اللاواعي كالطفل الصغير، ونحن نتلقى القسم الأكبر من معلوماته ونحن أطفال لا نفقه شيئا، لأن الفص الأمامي من أدمغتنا أو ما يسمى بالعقل الواعي لم يبلغ اكتمال تطوره بعد. يدير عقلنا اللاواعي مخطط حياتنا كله، اعتمادا على المعلومات غير المصفاة التي استنشقناها تلقائيا في طفولتنا، والتي يطلقون عليها معتقدات، ونحن غافلون عنها تماما، لكنها هي التي تتحكم بخيوط المشهد، والمفتاح الأول لتحرير نفسك منها هو في إدراك وجودها، لأن عقلك الواعي سيظل منشغلا بالبحث عن طرق لحل المشكلات، دون استيعاب القناعات المقيدة المدفونة في الأعماق، وقبل أن تدرك ذلك ستظل المحاولات بلا طائل، ولذلك ففي كل مرة تتأمل فيها مساحة مزعجة في حياتك حاول أن تتذكر المعتقدات الخفية التي كنت تسمعها في طفولتك حولها.