*المشهد الأول: (ميلاد التوحيد) في أرض مقفرة وسط واد غير ذي زرع لا مؤنس فيه، ومتاع زهيد لا يتجاوز جراب تمر ومزادة ماء.. تتبع تلك الفتاة زوجها الشيخ الوقور الذي قفّى مولياً تجاه الشام تاركاً إياها مع رضيعها..تسأله: يا إبراهيم أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي؟! فلا يلتفت، فتقول لهُ: آللهُ الذي أمرك بهذا ؟ فيقول: نعم، فتجيب في ثقة تامة: إذن لا يُضَيِّعُنَا.. فينطلق بعدها حتى إذا كان عند الثنية استقبلَ بوجهِهِ البيتَ، ثم جعل يدعو بكلماتِ خالدة ودعوات صادقة ويرفع يديهِ: {ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يَشْكُرُونَ}..[صحيح البخاري برقم: 3364 ]. *المشهد التالي: [يفصله عن المشهد السابق عشرات القرون]-(همّ النبوة) يأخذ الحقد وجهاء قريش إلى مسافات يغيب فيها العقل والرجولة في أطهر بقعة وأقدس أرض، فتارةً يخططون لخنق أشرف رجالهم وأصدقهم -صلوات الله وسلامه عليه وآله- وهو ساجد وتارة بتفتيش المزابل وإلقائها على ظهره. لكن خير البشر وأحلمهم وأرأفهم بالبشر يلوذ بربه ويأوي إلى ركن شديد فيخيره مَلَك الجبال: «إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين» فيجيبه الرحمة المهداة: «بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه، لا يشركُ به شيئًا» -صحيح مسلم-برقم: 1795 *المشهد الحالي: (مكة.. لؤلؤة الأكوان) تتلألأ مرآة التوحيد في أم القرى، اليوم، ناصعةً بهية بإذن ربها، فتمتلئ جنباتها بوفود الرحمن كما تمتلئ قلوبهم بمحبتها، تعبق نسائم الإيمان في طرقاتها الرحبة كما يتنفس زوارها التوحيد غضاً متجردين من كل الشعارات والأهواء والأغراض و الأزياء، إلا من هُويَّةٍ واحدة تجمعهم، (المحجة البيضاء.. ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك): كتاب الله وسنة رسوله المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه- وها هي مهوى الأفئدة تتجسد فيها دعوة الخليلين -عليهما السلام- فيقيض الله تعالى لهذا البيت من يعظم شعائره ويقيم دولة التوحيد لتهيمن على أرضه، هانحن اليوم ننعم بألوان المآكل و المشارب وصنوف الثمرات تجبى إلينا تحت ظلال الأمن الوارفة «أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم» (العنكبوت). وإذا كنّا اليوم نتباهى ونحتفي بضيوفنا بالمراكب الفاخرة، فإن الرحمن قد احتفى بوفده وأثنى عليهم برواحلهم المنهكة المتواضعة: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [الحج: 27] قد رفع مقامهم التوحيد وأعلى شأنهم الإيمان فتسامت أرواحهم فوق المناصب والمقامات الدنيوية (الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفْدُ اللهِ، دعاهُمْ فَأَجَابُوهُ، سَأَلوهُ فَأعطاهُمْ) السلسلة الصحيحة -برقم: 1820 فلك الحمد مولانا على كل نعمةٍ ومن جملة النعماء قولي لك الحمد، فلك الحمد حتى ترضى، مننتَ علينا بخير الأديان وأكمل الكتب وأفضل الرسل، ومعها، بلد طيب ورب غفور.