في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول: لو سألتكم ماأهم اختراع أو اكتشاف في تاريخ البشرية؟ أكيد لكم اختياراتكم المبررة بالمنطق. واختياري يقع على أول ما تبادر لذهني، وأول لمحة خاطر عادة ما تكون أول وسائل التأصيل. إني أعتقد أن أهم اختراع بشري منذ بدأ الإنسان يخترع ويكتشف هو: «الانترنت.» فليست هناك تقنية ولا اختراع ولا اكتشاف تشارك به المجتمع البشري مثل الانترنت، ولم يؤثر شيء كالانترنت في حياتهم، وتواصلهم، ومعلوماتهم، وحتى الانعطافات الكبرى في سلوكياتهم. الانترنت لأول مرة يتعدى حاجزين طالما كانا من صفة البشرية المنسحبة عبر القرون: الجغرافيا والتاريخ. الآن الشخص الذي يتصفح أي موقع بالانترنت في جبل كلمنجارو بأفريقيا، تماما يحمل نفس الصفات الذهنية والتصورية لشخص يتصفح في جبال الهملايا بىسيا أو جبال وذرنغ بأوربا. كما أن المكوّن التاريخي لم يعد حاضرا لقوة اللحظة الراهنة الانترنتية التي تصور الحال الآني حتى لو كانت معلومات عن أي تاريخ لأي حضارة. من يصدق أن هذا العالم الذي لم يجرؤ خيال علماء القصة العلمية الخرافية حتى التنبؤ به، علم الإنترنت، بدأ من أمر لا يتعلق بإشاعة المعلومة، بل بكتمان سر المعلومة؟! كتمان أهم معلومات الحرب وتقنيتها وتجسسها وأوامر تخطيطها. بدأت الشرارة الأولى في الستينيات من القرن الفائت في وسط حمى الحرب الباردة بين الأمريكان والسوفييت «روسيا حاليا» حين اعتمدت حكومة الولاياتالمتحدة على الحاسبات الألكترونية اعتمادا استراتيجيا لاستحضار التحذيرات المبكرة لأي هجوم ذري قادم من السوفييت. لما تعقدت الشبكة في وزارة الدفاع صارت ترسل المعلومات بطريقة تقنية بشكل حزم معلومات ضخمة كتقدم نوعي مذهل وقتها، وهذا كون شبكة سريعة الاتصالات مما جعل الحكومة تسمح للجامعات والمستشفيات ودور البحث باستخدامها.. ثم فلت العقالُ الانترنتي، وقرر البنتاجون أن يفصل شبكته الخاصة عن الشبكة العامة الماموثية.. حتى جاء العام 1990 حين تقدم عالِمٌ من «سيرن» اسمه «تيم بيرنرز- لي» بفكرة الشبكة العالمية العنكبوتية (WWW) والتي طوت العالم. ولم يعد العالم كما كان!
اليوم الثاني النباتُ في القرآن: أنا لا أتحمس جدا لتسخير المعلومات العلوية كتأكيدٍ على إعجاز القرآن الكريم لسببين، أبدأ بالسبب الثاني وهو أن المعلومات العلمية مهما ترسخت بالإثبات تبقَ معلومات قد تتغير بهيئتها، أو تتغير من ناحية اكتشاف ما كنا لا نعلمه عنها. وأما السبب الأول فلأن القرآن معجزة بحد ذاته فليس هناك أي داع للتباري في مسألة ترسيخ إعجازه. ومن لمحاته الإعجازية الخالدة والثابتة بآياته ما تُرينا يدَ اللهِ القديرة المبدعة وهي تفجر التربة بالحياة، ومن التربة الواحدة ومن الماء الواحد تخرج لنا الأرضُ محفلاً بهياً زاهياً من الأشجار والأزهار والثمار، وانظر أن الإبداع الإلهي من الأرض الواحدة والماء الواحد يخرج أشجارا وأزهارا مختلفة الوانها وفصولها وعلوها وقصرها وتباين ثمارها. (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) الأنعام-99. ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون) الرعد 3-4. عندما تأخذ بيدك في المرة القادمة حبة عنبٍ سوداء وحبة زيتونةٍ سوداء تتشابهان بالمظهر تأمل في الفرق وفي الطعم والتكوين والتركيب.. وهنيئاً مريئاً.
اليوم الثالث: شيءٌ من الفلسفة العلمية: لا شك أن «إسحق نيوتن» في القوانين الأساسية للحركة التي قدمها، وبقانون الجاذبية العام قد قدّم أيضا – بلا قصدٍ منه- ما يعرف اليوم بِ «التصور الميكانيكي للكون» وهذا التصور لم يترك بصماته فقط على العلوم الطبيعية الأخرى، وإنما ترك بصماته على أوجه أخرى من المعرفة والأنشطة الإنسانية في الاقتصاد والسياسة والعلوم وفي الثقافة الاجتماعية فنحن نقول في معرض كلامنا : «انتبه! تر لكل فعل رد فعل» وذلك استنادا بوعي أو بتضمير لقانون من قوانين الحركة. على أن الغريب أن قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية أثرت كثيرا في الفكر المسيحي، والسبب أن الفكر المسيحي لا ركن ركين لديه فالأناجيل متنوعة وكثر بها النسخ والإضافة والتبديل، ولكل ملة مسيحية انجيلها، بل إن كنيسة في وسط الولاياتالمتحدة وتبعتها ألمانيا سمت نفسها الكنيسة النيتونية لتثبت مشاهد الصلب والارتفاع للسموات ونشأة الكون. ومن يعرف جيدا في بيان إعلان استقلال أمريكا عن التاج البريطاني يلاحظ بوضوح الارتكان إلى الفكر النيوتوني. ظلّ العلماءُ مخلصين قانتين للنظام النيوتوني طوال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، ولم يظهر تحدٍّ حقيقي لنظام نيوتن في تصور هذا الكون إلا في أوائل القرن العشرين على يد عالم ألماني اكتشف نظرية النسبية اسمه.. أينشتاين.
اليوم الرابع من الشعر العالمي، أترجمه بتصرف: « لا أعلم كيف سيبدو عملي الكوني للآخرين.. وبما أراه في نفسي فأنا مجرد طفلٍ غرٍّ يتسكع على شاطئ.. يجمع صُدُفاً هنا، ويتبع فقاعاتٍ تلوّنتْ بالموج الزاحف هناك.. بينما المحيط المارد من «الحقيقة» يتسع أمامه بمدى السماءِ للسماء.. لا يعرف حقيقتَه، وتستغلق مفاتيحُه، بلا تخومٍ، وبلا اكتشاف « *السير إسحق نيوتن
اليوم الخامس شيءٌ للصحة: هل نحتاج فعلا الفيتامينات؟ وبالفيتامينات نقصد المغذيات الإضافية المصنعة. إن الشخص الصحيح الطبيعي لا يحتاج الفيتامينات فهي متوافرة بعناصرها بأنواع الأغذية المختلفة طالما أنه يتناول ما يُعرف بالوجبات الصحية المتوازنة. على أن هناك فئة من عشرات الملايين على الكرة الأرضية تصيبهم أمراضٌ بسبب أما سوء التغذية بأسباب دينية أو «اقتناعية» مثل النباتيين أو للمجاعات الضاربة فهم لا شك يحتاجون للفيتامنات المكملة. ونعرف في تاريخ الاكتشافات البحرية الكبرى كيف كانت تتساقط أسنان وتلتهب لثَثُ البحارة الذين يبقون بعيدا عن البر لأشهر طوال، وعرفنا فيما بعد بأنه ناتج عن نقص الفيتامين سي. والآن يعبر البحارة المحيطات ويعودون بلثةٍ ورديةٍ وأسنان صحية تبرق بالبياض. إن هناك أمراً يجب أن نعرفه بأن الاعتماد الكلي على الطعام المطهي بنارٍ قوية تضيع الفائدة من مكوّناته، وهنا يكون المنتظمون على هذا النوع من الوجبات- وهي ظاهرة عندنا بمنطقة الخليج- بحاجة للجوء لفيتامينات تكميلية قد تكون ضرورية. وهناك مراحل صحية أو فسيلوجية عابرة قد يفقد الإنسانُ فيها دما، أو عنصرا معدنيا ويستلزم حينها الاستعانة بالفيتامينات حتى تمر الفترة العابرة. وهناك فيتامين آخر ينفع في الصعود الاجتماعي ولكن لا حاجة لنا لذكره هنا!
اليوم السادس تأثيرُ وأثر كتاب: كنت صبياً حين قرأت كتاباً منسياً في مكتبة قريب يعمل في أرامكو، أحضره معه لما كان يدرس في الولاياتالمتحدة أول الستينيات، ويبدو أنه نسيه مع السنين ووقع في يدي وهو ينقل عفشه إلى بيت جديد. واعتكفتُ على الكتاب، وبهرني، وأبكاني، وروعني، وجعلني مسخَّرا بوعيي له وحتى في أحلامي وكوابيسي، وما زال منحوتاً بعبارات كاتبه الإزميلية التي شقت نحوتاً في ذاكرتي لا أظن أنها قابلة للزوال. كان عنوانُ الكتابِ يسحب بؤبؤَ العين من كهفه: «هيروشيما» لكاتب عز نظيره ولم ينل شهرة يستحقها في خضم الروائيين العظام الأمريكين كإرنست همنجواي وجون إبدايك وهاربر لي، وهو «جون هيرسي». لقد جرفني تماما «هيرسي» بقصته «هيروشيما» لأنصهر داخل الأحداث والأشخاص والأفكار والمآسي والخوف والروع وتجمد الضمير العسكري.. ولن أنسى كيف كان وصفه لصباح السادس من أغسطس من العام الميلادي 1945، عن ناس عاديين في مدينة حية منهم من كان يقرأ جريدته الصباحية، ومنهم من كان يقبّل طفلته قبل الخروج للعمل ومنهم الطبيب الذي لتوه يضع مبضعا لتخليص مريض من آلامه.. كتاب أصفه بكلمة واحدة: الإفصاح. الإفصاحُ عن الشرّ البشري المطلق، وعن المأساة البشرية المطلقة. كان هيرسي يتأنى بوصفه للمشاعر والمشاهد وعلمني شيئا غار بنفسيتي وكتاباتي فقد كان لا يمر عابرا على المأساة الإنسانية بل يقف طويلا يحلل ويصف أقل خيط في نسيجها، وأقل خط في لوحتها.. إن دمعة واحدة قد يستغرق بها صفحة كاملة. كتابٌ يهزني لليوم، «هيروشيما» لجون هيرسي!
اليوم السابع لفتة ذهن: أعجبني أن شابا اسمه خليل الوشنان يدير بقالة صغيرة وقد علق دعاية كبيرة لعلبة سجائر رائجة، مسح بحرفية الشعار الأصلي من «سجاير سوبر سايز»، إلى «سرطان- سوبر سايز!» وألقاكم الجمعة القادمة إن شاء الله بخير.