«لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم»! لا تحمل هذه الحكمة اليابانية (ذات الجذور الصينية) في صيغتها الأولى معنىً سلبيا. لا تقترح قرود الحكمة الثلاثة أن يكون المرء شيطانا أخرس، بل تدعو إلى اجتناب رؤية وسماع وقول الأشياء السيئة. تداول الناس العبارةَ، زمنا طويلا، بهذا الشكل المجتزأ والمفصول عن سياقه فحدث الالتباس. أمهِّد بهذه المقدمة للتعليق على رسالة إلكترونية وصلتني من قارئ كريم اقتبسَ هذه العبارة تعليقا على مقالٍ تناولتُ فيه ظاهرة السلبية الفردية أو الجماعية التي غالبا ما تناقض أصولَ ومبادئ الشراكة الاجتماعية، وتؤدي إلى نتائج سيئة. وكنت قد استشهدت في المقال إياه بحكاية شعبية دوَّنها الكاتب والمؤرخ الأفريقي (أمادو همباطي با) تحت عنوان (لا وجود لخصومات صغيرة). حيث يعلق الكاتب في ختام الحكاية قائلا: «النار مهما صغرتْ، والمشاجرة مهما كانت بسيطة هما الشيئان الوحيدان القادران على إنجاب طفلين أضخم منهما بكثير: إما حريق أو حرب»! يعلق القارئ الكريم على ما جاء في المقال قائلا: «حدث لي موقف غيَّر قناعتي كليا من مبدئي في أصول الشراكة الاجتماعية». وأفاض في شرح مدى الإحباط الذي أصابه بعد أن قام بمبادرة إيجابية للإبلاغ عن تصرف غير حضاري ولا أخلاقي قام به بعض الشباب الطائش. لم يغير ذلك السلوك بيده، فهذا ليس من اختصاصه، بل توجه إلى الجهة المعنية بعلاج مثل ذلك المظهر المتخلف، إلا أنه قد أصيب بحالة من الإحباط لأن الموظف الذي تعامل معه لم يكن في مستوى الموقع الوظيفي الذي يشغله. لقد أسف كثيرا على قيامه بتلك المبادرة الجميلة النابعة من شعوره بالمسؤولية، بعد أن اكتشف أنه قد أراد خيرا فأضر أشخاصا لا علاقة لهم بالأمر. وهو ما دعاه إلى أن يختم رسالته المؤثرة بالقول: «لذا اتخذتُ عهدا على نفسي بأن أكون مواطنا لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم»! لا أنوي، هنا، سرد تفاصيل تلك الحالة، لكنها نموذج لحالات كثيرة تضطر المرء إلى أن يقف فيها موقف المحايد أو المتفرج من أمور تعنيه بالفعل، ولها تأثير عليه وعلى غيره، ويستطيع أن يساعد في حلها، أو التقليل من آثارها السلبية، لكنه لا يفعل شيئا، إما بسبب تعقيد بعض الإجراءات، أو بسبب مزاجية القائمين على التنفيذ، الأمر الذي يؤدي إلى إيصاد الباب أمام تلك المبادرات الإيجابية، وإلى شيوع المواقف السلبية، والتخلي عن واجبات الشراكة الاجتماعية. ترى، كيف نعيد ثقة هذا المواطن الشهم في نفسه؟ وكيف نرمم ثقته المتداعية في بعض المؤسسات التنفيذية التي يتعامل معها؟ كيف نشجعه على تصحيح ما يراه من أخطاء؟ وكيف يكون إنسانا يؤمن بمبادئ الشراكة الاجتماعية دون أن يدخل في متاهة أو ورطة تجعله يتخذ موقفا شعاره: «لا أرى .. لا أسمع .. لا أتكلم»! [email protected]