إلى الصديق (محمد الحرز) ،وإلى الأصدقاء في مقهى (الرصيف) بِبِطْءٍ لذيذٍ تسترخي ليلةُ (الجمعة) على سرير الكون مثلما تسترخي الحبيبةُ على هضبةٍ من أضلاعِ حبيبها، ويفتحُ لنا الوَلَهُ بابَ مقهاه على (الرصيف)، حيث المقهى هو رئتنا الأوسع حين تكون الأنفاسُ أعوادَ ثقاب. يأتي الأصدقاءُ شطراً بعد شطرٍ حتَّى تكتملَ القصيدةُ.. يمتدُّ طابورٌ من التحيَّاتِ بطول الممرِّ، ثمَّ يتسرَّبُ دفئاً في الأصابعِ.. نتكاتفُ في جلستِنا مثلما تتكاتفُ الأعذارُ للنهوض بالسَّبَبِ على قوائمه.. نتجاورُ كالأيَّامِ وأنتَ ما بيننا (الجمعة).. حضورُكَ الكثيفُ لا ينفكُّ يمدُّ عرائشَ الدهشةِ على وجوهِنا حتى نشعر بالظلال، وكلّما ارتفعَ شراعُ الحوارِ على صارية الليل، فاجأَنا حديثُكَ يُمْسِكُ بالدفء من فروتِهِ ويقودُهُ إلى أجسادِنا، ورأيناكَ تفرشُ مواهبَكَ على الطاولة مثل خرائطَ تدلُّنا على كنوز الجمال في كهوف المجهول. في المقهى الذي أعدنا طلاءَ جدرانهِ بفرشاة الوجد ولون السهر.. في ذلك التابوت الصغير على الرصيف، نسهرُ وكأنَّنا نتدرَّب على ممارسة الموت العاري واستجلاءِ بهائه.هناك حيث المزاجُ هو سَيِّدُناَ بلْ سَيِّدُ المكانِ كلّه.. إيهٍ يا (أبا فراس).. أيُّها الريَّانُ مثل فجرٍ سدُّوا في وجههِ المصبَّ.. ها هو الليلُ يجشِّمُنا أن نحملَهُ على العيون بكاملِ فضائِهِ وعتمتِهِ ضريبةَ أن نرى القمرَ.. القمرَ ذاتَهُ الذي حَرَّضَهُ الوشاةُ ضدَّنا فانخسف. في المقهى.. طاولةٌ واحدةٌ تجمعُ شملنا مثل مصبٍّ تلتقي فيه الأنهار.. تطفرُ الأمواجُ على الطاولةِ بالنوادرِ تارةً، وتارةً بالغوايات.. وحينما نتحرَّشُ بالشعرِ.. هذا المخلوق الذي لم يحسمْ موقفَهُ باتّجاهِ الوجودِ بعدُ.. تتجلّى النصوصُ في دلالٍ وكلُّ نصٍّ مُتَّكِلٌ على جماله. تَرَانا ننكمشُ تحت جلبابِ حوارٍ ضَيِّق، لا يمكن لنا أن نُوسِّع رُقعتَهُ بالتوافق مهما فتحنا أزرار الحديث على أقصاها.. هنالك نشعل كبريتَ الاختلاف في الجلباب حتى تتناثر خيوطُ الحوار قناديلَ صغيرةً تضيءُ طريقَ عودتنا إلى البيوت في الهزيع الأخير. أنا وأصدقائي نشربُ من قاموسٍ ثائرٍ ونتعاطى الحِممَ ذاتَها منذُ صَحَوْنا وعلى حناجرنا أقفالٌ مختومةٌ بالصمتِ الأحمر، لذلك كثيراً ما ننتهكُ الأختامَ مثل علماءِ آثارٍ ينتهكونَ حُرمةَ الموتى. في المقهى الذي أعدنا طلاءَ جدرانهِ بفرشاة الوجد ولون السهر.. في ذلك التابوت الصغير على الرصيف، نسهرُ وكأنَّنا نتدرَّب على ممارسة الموت العاري واستجلاءِ بهائه. هناك حيث المزاجُ هو سَيِّدُناَ بلْ سَيِّدُ المكانِ كلّه.. وحينما ترفرفُ السكينةُ على رؤوسنا مثل حمامةٍ لا نسمعُ لأجنحتها حفيفاً، ينتصبُ الصمتُ نادلاً ثمّ يقذفُ السؤالَ بحواجبِهِ في اتّجاهنا حتى يرنَّ على الجباه.. ينامُ الشايُ في الأباريق.. تنعسُ القهوةُ في الأكواب.. ويظلُّ السَّهَرُ هو طبقنا المفضَّل في قائمة الطعام. وكلَّما اقتلع الصمتُ أوتادَهُ ورحل، ثَنَيْناَ الرُّكَبَ في شبهِ ركوع، وسمعنا صلاتَها في قرقعات المفاصل.. المفاصل التي علَّمَتْناَ كيف ننحني دون انكسار حينما تعصفُ بنا الأزمات. أَنا وأصدقائي لم نكنْ فرساناً قطّ، ولكن علَّمنا تاريخُ الفروسيَّة أنَّ أخطرَ حصانٍ نمتطيهِ هُو حصانُ الحبِّ لأننا لا نعلمُ متى نترجَّل عن متنِه.