«التحياتُ للعناصر المشعّة بذاتها/ لا لمصابيح راضعة من كهرباء». بلغة طازجة ومفتوحة على عالم افتراضي - واقعي، يكتب الشاعر المصري شريف الشافعي ديوانه الجديد «غازات ضاحكة» (دار الغاوون، 2012)، وهو ثاني أجزاء «الأعمال الكاملة لإنسان آلي». وبالتدقيق قليلاً في عنوان الكتاب وغلافه، الذي رسمته طفلة في العاشرة من عمرها، والذي جاء مطابقاً لما يحتويه الكتاب، نجد أنه ديوان حداثي بامتياز، فالعنوان يعبّر عن «الغاز المضحك»، الذي يؤدّي استنشاقه إلى انقباض عضلات الفكَّين تاركاً الفم مفتوحاً وكأنه يضحك، ضحكة مصطبغة بلا حياة، تماماً كما هي حياة الإنسان المعاصر، التي فقدت وتفقد فيها الأشياء معانيها. ثمة بحث دؤوب عن الذات الإنسانية في عالم إلكتروني بحت، يستبدل العواطف والمشاعر بالآلات: «أخبرتني قرون استشعاري/ وموجات الراديو/ المتحكّمة في ميكانيكيتي/ أن الطاقة البديلة/ أضحوكة كبرى/ في عالم نفدت طاقته الروحية/ مثل نفاد غازه الطبيعي». لغة الشافعي المبتكرة والمثيرة للدهشة تنفتح على آفاق رحبة، تقودها الرؤية الثاقبة والمختلفة للموجودات، لذلك نجدها تتجرَّد من القاموس البلاغي المستهلك، بل إن الشاعر يذهب بها إلى الحدّ الذي يجعلها تلتحم وتندغم مع عصرها الراهن، بحيث تستنطق أسئلته، وتجيب عن ماهيّته: «المغنطيس الأحمق/ الذي يصرّ على أنكِ بُرادةُ حديدٍ/ لن يفوز أبدًا/ بِنُخالتكِ الذهبيَّةِ». وعلى قارئ الشافعي أن يكون مهيَّأ بقدر كافٍ للانفتاح ليس على الآخر وحسب، بل على الموجودات الممكنة وغير الممكنة، وعليه امتلاك أفق واسع لاستيعاب لغته، التي لا مرجعية لها سوى التوحُّد بينها وبين الرؤيا والمعنى، ولا خلفية لها إلا الابتكار: « تَعَطُّلُ راداري المتطوِّرِ/ ليلة أمس/ لَمْ يمنعني من إسقاطِكِ في حضني/ بصاروخٍ بدائيٍّ اسْمُهُ «الدهشةُ». ولا يكتفي الشافعي بهذا الكتاب، الذي هو أشبه بسيرة شعرية شخصية، لخلق عالمه الخاص، بل يُشرك القارئ معه في بناء علاقات بينه وبين عالمه المبتكر، عبر التركيز على تراكيب تجعل المتناقضات منصهرةً ضمن منظومة اللغة: «جيبُ بنطلوني الخلفيُّ/ ممتلئٌ جدًّا/ بالعُملاتِ الصّعْبةِ/ عندما وضعتُ يدي فيه/ لَمْ أجد شيئًا سهلاً أصافحهُ/ جيوبي الأنفيّةُ/ فارغةٌ جدًّا/ عندما وضعتُ يدي فيها/ وجدتُكِ/ فصافحتُ نفسي بسهولةٍ». ثمة تراكيب يثيرها النص، وثمة مراوغات لغوية ولعبة دلالية، يعمل عليها الشاعر، ليقلب بها قوانين اللغة، وليستغلّها لمصلحة نصّه، الخالي من الاستطرادات رغم الأفكار المندفعة في المقاطع الطويلة، فقد عبَّر الشاعر عن الحرّية، المرأة، الحب، الموت، الخيانة، العربة، وغيرها الكثير، ضمن القالب الإلكتروني المعتمد في الكتاب. كما أن هنالك أفكاراً تحسبها مجرّد هذيانات أو تُشكِّل تهويمات حلمية لكائن افتراضي في عالم افتراضي محض: « العصفورُ/ الذي بَلَّلَهُ المطرُ/ صار أخَفَّ وأجملَ/ من شدةِ نشاطهِ/ حلّقَ العصفورُ في السماءِ/ نفضَ ريشَهُ المبْتَلَّ ببهجةٍ/ ليُذيقَ السحابَ/ حلاوةَ استقبالِ المطرِ». إن المهارة اللغوية العالية، التي يمتلكها الشاعر، جعلته قادراً على العمل على البنية اللغوية، والتحكُّم بجرعة اللغة، من خلال التكثيف والاختزال، ما أتاح الوصول السريع والسهل لكل فكرة يريدها، دون إثقالها بإرهاصات اللغة وتداعياتها، التي لا حاجة إليها. «غازات ضاحكة» ديوان كتبه روبوت ثائر بامتياز: « أمَنِّي نفسي بسلامةِ الوصولِ/ لأن جُرحي سبقني ووصلَ سليمًا/ إلى الضّفّةِ الأخرى من المتاهةِ «.