بعدما صفق لنيرميتا بحرارة وهي تطقطق عنقها بدلال، بعد 365 يومًا من الفشل في اصطياد نيرمانا في ديوانه السابق «البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية»، يعود إلينا الشاعر المصري شريف الشافعي مطلع هذا العام بديوانه الجديد «غازات ضاحكة» (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2)، الصادر عن دار «الغاوون» في بيروت، متقدمًا خطوة أبعد في ترسيخ هذا المشروع الشعري الضخم والمهم، المكتوب بلسان روبوت ثائر متمرد. الشافعي يبتكر قصيدة نثر مختلفة، بحداثة شديدة، بسهولة ممتنعة تحتمل أكثر من تأويل، بأريحية ممكنة تصلح في بعض سماتها لأن تكون سيرة أو قصصًا قصيرة جدًّا أو حكاية. إن إنسان الألفية الثالثة، المرموز له بالروبوت، يفضح بكلماته سوءات هذا العصر الغارق في التكنولوجيا والاستهلاك والمشاغل، باحثًا عن لحظة صفاء للروح، عن الذات الإنسانية المفقودة بين مفاتيح الكيبورد ورسائل الإيميل ومحركات البحث الكثيرة. «إلى الهواءِ الفاسِدِ، الذي أجْبَرَنِي على فَتْحِ النافذة»، هكذا كان إهداء الجزء الأول، وهو يكاد يكفي لاكتشاف رغبة التمرد الملحة، حيث عدم الرضا عن حال راهن، بما يبدو محرضًا جيّدًا للانطلاق والكتابة. إنها قصائد ذات ذاكرة إلكترونية واسم مستعار، بجوهر نفيس نادر، وتمرد مدهش، وحيوية تامة. ويفتتح الشاعر ديوانه الجديد «غازات ضاحكة» بعبارة دالة: «دُوّنتْ هذه التجاربُ في غرفةٍ مجهّزةٍ بالقريةِ الكونيّةِ، في الفترة من مطلعِ الألفيّةِ الثالثةِ، إلى نهاية عصرِ الورق»، يعقبها الإهداء المطول الممتد على أربع صفحات، ومنه: «إلى رادارِ الألَمِ، الذي أرشدَني إلى معسكرِ السُّوسِ، في ضرسِ العقلِ الإلكتروني». وهنا نكتشف الحالة الأولى من حالات النص الكبير الزاخم (ستمائة صفحة)، وهي حالة الألم في ضرس العقل الإلكتروني، التي تؤدي إلى محاولة البحث والاكتشاف عن مسكّن أو علاج. ويواصل الإهداء: «إلى مخدِّرٍ فوّاحٍ، شدّ عظامَ فكّيَّ، في غرفةِ العمليّاتِ، وأصابَني بهستيريا المرحِ المصطنعِ/ إلى ابتسامةٍ جبريّةٍ، بلونِ القطنِ الطبّيِّ». وهنا يشير مسبقًا إلى الحالة الثانية، وهي حالة فقدان الوعي واستنشاق الغازات الضاحكة (غازات التخدير)، التي تقود إلى تيبس عضلات الوجه وانفراج الفم وكأنه يضحك، وظهور ابتسامات بلاستيكية باردة بلا معنى، تعكس حياة مصطنعة، وتواصلًا باهتًا، ومشاعر مبنجة. لا أمل إذن في تصنيع السعادة، ودرء الآلام بالكيمياء ومنجزات الإنسان المادية، لأنه مريض روحيًّا بالضرورة. ويتواصل الإهداء أيضًا: «إلى غيبوبةٍ كاملةٍ، حرَّرتني من البرامجِ الجاهزةِ، أطلقتْ أغصاني وأوراقي الخضراءَ في اتجاهِ جاذبيّةِ الأرضِ/ إلى هَلْوَساتٍ إنسانيّةٍ فريدةٍ، وجراثيمَ خطيرةٍ، فرّتْ من خلايايَ البيضاءِ والحمراءِ، لَمْ تنتبهْ إليها صفّاراتُ الإنذارِ في المستشفى/ إلى موتٍ واحدٍ، أقوى من أجهزةِ الإعاشةِ، أكثر حيويّةً من أرواحٍ محبوسةٍ في أقفاصِ العصافيرِ، في أحواضِ الأسماكِ، في صالاتِ ترويض حيواناتِ السّيرك/ إلى (أنا)، حينما أنظر إلى المرآةِ، فلا أرى أحدًا». يا لها من حالات كثيرة عميقة، تجسد واقع الإنسان وصراعه مع الذبذبات الإلكترونية. ها هي الغيبوبة تنجم عن الإفراط في استنشاق الغازات الضاحكة، الإفراط في الاصطناع وتبلد الحس الإنساني وطغيان الحياة. وعلى الرغم من ذلك، تتجلى فيها هلوسات وأحلام الروبوت الثائر، الطامح إلى التخلص من البرامج الجاهزة، والارتداد إلى أصله وفطرته، إلى صورته الطينية. تليها حالة الموت، التي تجسد انتصارًا لإرادة الحياة الحقيقية للإنسان الحقيقي على قوة أجهزة الإعاشة الجبرية للإنسان الآلي في المستشفى، وهنا يصنع الشاعر حياته الخاصة، وشعره الخاص، بتفاعلاته اليومية مع مفردات الواقع، وتفاصيل المشاهد العابرة. لقد ظل الشاعر يباغتنا بكتاباته ولقطاته الفاتنة، التي تنتصر لإرادة الشعر وإرادة الحياة في آن، دون ملل رغم طول الكتاب (600 صفحة)، وفي نهاية كل مقطع تشعر بوخزة توقظك من غفوتك، تجبرك على إعادة قراءة النص، على البحث أكثر والتنقيب بمكبراتك الحسية والمعنوية. إنه يلتقط صوره باحترافية كاملة، بجودة عالية الدقة، وزوايا لا يراها شاعر غيره: «لاحتْ لي في الوقتِ بدل الضائعِ ثلاث فرصٍ كبرى لتسجيل طفلٍ باسمي واسمكِ: الأولى أضعْتُها أنا بسلبيّتي، وعدم قدرتي على الابتكارِ/ الثانية أضعْتِها أنتِ، برعونتِكِ وأدائكِ الاستعراضيِّ/ الفرصةُ الثالثةُ أضاعها حكمُ اللقاءِ، الذي لَمْ يحتسبْ طفلَ الأنابيبِ هدفًا شرعيًّا» لقد تحرر الشاعر في «غازات ضاحكة» من أيقونة الجزء الأول (نيرمانا)، فجاءت الحالات الإنسانية أكثر انطلاقًا وعمقًا، وتعددت، فمنها العاقل، ومنها المجنون. إنها حالات من الارتباك الضروري من التجريب والتخريب، بتصالح تام مع الذات والحياة والواقع، أو برفض. بالصورة السلسة المتدفقة، التي تشبع رغباته وطموحه، بتقنية مختلفة تمكنه من أن يكتب لنا ما يريد، بإشارة إلى سلطة التكنولوجيا، التي أفقدت الإنسان حريته وقلبه، باختزال تام وناضج. إننا نعود معه إلى لحظات تبدو خاصة به، إلا أنها تخصنا جميعًا. إنها حداثة الفكرة والتنفيذ والتصميم، دون أي تكلف أو تعقيد، بلغة بسيطة ومفهومة. إن الشاعر يعيد لنا كتابة يومياتنا بحبر احترافي مميز ومضيء. إنه شاعر اليقظة الاستثنائية بامتياز، شاعر يبحث عن فضاء آخر، في مكان مستحيل، بمنأى عن هذا الصخب والضياع والطمع البشري والمصلحة: «أن أوقظ وردةً واحدةً خيرٌ من أن أنام في بستان» باحتراف شديد، وبتكثيف، يشير الشاعر بالليزر الأحمر إلى بعض دوائرنا اليومية، التي تتكون دون أي اهتمام، إلى الروتين والعلاقة الوطيدة التي نشأت بين الإنسان وما يصنعه بيديه وخياله. وقد مرر لنا كل ما يريد، وانتقد ما يريد شعرًا، وحياةً، وعشنا معه حالات الإنسان، بكل صراعاته مع الحياة، حيث الرغبة والاضطراب بين الممكن والمستحيل، عبر نسيج فني ومقاطع متشابكة متصلة مترابطة، تقدم رؤية متكاملة، شأن الأعمال الإبداعية الكبيرة. شريف الشافعي، باختصار، شاعر إنساني راقٍ، يصنع المعجزات بكلمات قليلة مفهومة، واعٍ ومقنع حد الإشباع، يخلق الكثير من المشاعر الإنسانية، يشرح الإنسان ويفصله، يحدد أماكن الألم، ويكتب الوصفات الطبية! ولذلك تحلق حوله دائمًا القلوب الذهبية: «أنْ أهزَّ حصّالتي بمرحٍ أروعُ بكثيرٍ من أنْ أحصي ما بداخلها من قلوبٍ ذهبيّةٍ» غازات ضاحكة (الأعمال الكاملة لإنسان آلي2) شريف الشافعي شعر، 572 صفحة، القطع الصغير ط1، دار الغاوون، بيروت، يناير 2012 (*) شاعر وكاتب من السعودية [email protected]