«إذا ارتاح الوالد تعب الولد، وإذا تعب الوالد ارتاح الولد»، سمعت هذه العبارة من بعض كبار السن كثيرًا، وقد تجد أحدهم يبني عليها مواقف حياتية كبرى، بل يحكيها بانفعال أبوي، ويسرد بعدها فلسفته في العلاقة الوالدية، التي تبدأ بملاطفة الطفل والتحبب إليه، وتنتهي بصداقته شابًا يافعًا، وكهلًا حكيمًا. وإذا كانت السياقات التي تأتي فيها مثل هذه العبارات غالبا تكون اقتصادية بحتة، تُعنى بالأمان المالي فقط، فإن آفاقها أرحب من ذلك بكثير، بل إن الآفاق التربوية والاجتماعية والعلمية والعملية أكثر أهمية من الأمان المالي الذي يتوهمه أي شخص يظن أنه حين يتعب في تنمية أمواله وتثميرها يكون قد ضمن الاستقرار المالي لذريته، كيف والحوادث الواقعية تؤكد إفلاس عدد من الذين ورثوا المال دون معرفة بأساليب استثماره، وورثوا العقار دون وعي بطرائق إدارته، وورثوا الجاه دون جدارة بمستلزماته، وورثوا كل ذلك دون خلق رفيع، ولا دين قويم!! بل إن المال الموروث قد يتحول إلى قنبلة تنفجر بالخلاف والشحناء والقطيعة، فيكون الوالد - دون أن يشعر - سببًا في تفريق أولاده بنين وبنات، وما كان ليرضى بذلك في حياته، ولن يرضى به – لو علم – بعد موته!! نعم، إذا تعب الوالد في تربية أولاده وليس في الانشغال عنهم بالتكاثر المادي، فإنهم – حقا - سوف يرتاحون من عناء الاضطرابات النفسية، والأمراض النفس بدنية، ومن الانحرافات السلوكية، ومن العلاقات المشبوهة والمحرمة، وسوف يرتاحون – أيضا - من قرناء السوء، ومن ضياع العمر في المتاهات والمهاترات، ومن التنقل بين حفر الفشل ودوائر الهزيمة وتجارب الإحباط!! وإذا لم يتعب الوالد في تربيتهم واستصلاحهم، فقد يشقى الأولاد دنيا، ويخشى عليهم من شقاء الأخرى، بل قد يشقيهم المال الذي جُمع لهم، وأهلك الوالد نفسه في تحصيله من أجلهم، حين يصرفونه فيما يعود عليهم بالوبال والعذاب. بل قد يكتشف الأب - وهو حي يرزق - أن من تعب من أجلهم وشقى في تحصيل الثروة من أجل أن يريحهم، لا يستحقون من ذلك شيئا، فيشعر بالخسارة الفادحة قبل أن يفارق الحياة! والتوازن هو المطلب، فالتربية الإيمانية تزيد من صفاء العلاقة بين الوالد والولد، ونقائها من المطامع المادية، والتربية الاجتماعية تؤهل الولد لتحمل المسؤولية والحفاظ على مكتسبات الوالد والأسرة، والتربية العلمية الثقافية تجعل الولد إنسانًا متحضرًا واعيًا بمستجدات عصره، يتعامل معها ببراعة ودراية، كما تجعله صامدًا أمام تقلبات الحياة، وصدماتها المفاجئة، والتربية العاطفية تجعله يحفظ قلبه من الانزلاق في حضيض العلاقات الموبوءة. تعبُ الوالد في استثمار المال من أجل أولاده مطلب، وسوف يريحهم إذا وفر لهم ما يكفيهم فضلا عن أن يكون فوق كفايتهم، ولكن لا يصح أبدا أن يتخذ من ذلك عذرًا له في التقصير معهم، ولا الانشغال به عنهم بحجة أنه لهم. وعلينا ألا نصغي لمن يقول لنا: دعوا أولادكم يتعبون لأنفسهم، وليحصلوا من الأموال ما يتزوجون به، وما يسكنون به، وما يعيشون به، واستمتعوا أنتم وحدكم بأموالكم، فإن على الأب القادر أن يحصن أولاده فيزوجهم، وأن يعينهم على تلبية احتياجات الحياة بما يستطيع، دون أن يجعلهم يتكئون عليه، فالتربية الناجحة هي التي تجعل أولادنا يستغنون عنا، ولا يحتاجون إلينا، مع بقاء البر والحب والوئام.