غالبا ما تصدر الأحكام عموما من تصورات مسبقة، تضفي عليها الثقافة العامة مواقف محددة وفقا لتلك الثقافة، وهذا ما يسمى أحيانا بالأحكام الموضوعية، وهي تختلف عن الأحكام الارتجالية التي غالبا ما تكون وليدة اللحظة، وهي رد فعل مباشر يصدر من الإنسان دون التفكير في النتائج السلبية التي قد تترتب عليها، وما يعقب هذه النتائج من ندم على التسرع، ولو أمعنا النظر في تلك الأحكام التي تصدر من تصورات مسبقة تبعا لثقافة الإنسان، لوجدنا أن بعضها ليس بالضرورة موضوعيا بالنسبة لغير أصحابها؛ لأن الثقافة العامة المؤثرة على هذه الأحكام ليست دائما ذات مستوى موضوعي يرضى عنه الجميع، خاصة في حالة انحراف هذه الثقافة نحو أيديولوجية معينة، وبالتالي فإن تلك الأحكام التي تظهر في ثوب مؤدلج قد تقترب من التسطيح بحكم انتمائها الأيديولوجي الذي يفرض بداهة تطويع أي حكم.. للانسجام مع توجهاته الفكرية، ومعتقداته المعلبة وغير القابلة للخروج من منظومة الأفكار والمبادئ العامة التي يسعى معتنقوها لفرضها وبشكل قسري على غيرهم، مع أن اختلاف الرأي يمكن أن يثري أي حوار حول أي موضوع مهما كان شائكا أو محظورا في إطاره العام. ولا عجب أن يستغل أصحاب الفكر المؤدلج أي إشارة تصدر من غيرهم، لتطويعها فيما قد يعتسف الحقيقة الموضوعية القابلة للحوار والاختلاف وليس التعصب والخلاف، فما أضر أي حوار أكثر من ضرر الأيديولوجيات المتوحدة مع ذاتها من خلال رفضها التام لمن لا يسير في ركابها، لأنها تتشرنق في مفاهيم محددة يرفض قادتها المضلِّلون وأتباعهم المضلَّلون الخروج منها، وهذا ما يجعل أي حكم يصدر منها.. خاضعا لتوجهها الفكري المحدود الأفق، لافتقاده القدرة على التفاعل والتلاقح مع التوجهات الأخرى، وهنا يكمن الخلاف بين ما يسمى بالرأي والرأي الآخر، عندما يتمترس أصحاب الفكر المؤدلج خلف أفكار ومبادئ يستميتون في الدفاع عنها، لدرجة رفض أي رأي آخر مهما بدا مقنعا وقابلا للتفاعل معها، من أجل الوصول لصيغة مشتركة قريبة من الموضوعية المنشودة. وأخطر ما في الأمر أن يلجأ المتعصبون لأيديولوجيات معينة، إلى التطرف المؤدي إلى العنف والإرهاب، لفرض معتقداتهم المنحرفة، وسبب انحرافها هو إصرار المتعصبين لها على حمل السلاح في وجه من يختلف معهم في الرأي أو المعتقد أو المذهب، مما يعني أن الإرهاب ليس وسيلة لفرض الرأي فقط، بل هو عقيدة تغذي العنف المؤدي إلى الإرهاب، الذي يحيل الإنسان إلى كائن غير مؤهل لقيادة نفسه، وهو الذي يسعى لقيادة غيره. وهذا ما يفسر إصرار بعض الدول على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، رغم وقوف الدول المحبة للسلام في وجه هذا الجنون الذي يهدد أمن العالم، ويعرقل تقدمه وازدهاره. وهذا ما يدعو إلى عدم الثقة بأي حكم يصدر من أي جهة مؤدلجة الفكر والعقيدة.