اختلافنا على الحقيقة أساسه اختلاف الناس فيما بينهم، والتحولات والمتغيرات التي تحدث أمامنا أو نشهدها ما هي في واقع الأمر، سوى نتيجة للفعل الإنساني، فإذا كان الفكر هو وليد الواقع، فإن الفكر الاجتماعي، في تقديري، هو مكمل للواقع الاجتماعي من يتابع الاخبار واتجاه الكاميرات وأصوات المراسلين وتعليقات المحللين ومواقع الاحداث ومشاهد الدم ورائحة البارود والفظائع والاغتيالات والسياسية والتفجيرات، فإنه ليس بحاجة ان يبتعد كثيرا عن منطقتنا، بدءا من لبنان الى سورية مرورا بالعراق وصولا الى مصر التي شهدت بداية مقلقة من موجة إرهابية قادمة تمثلت في محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري. كنا نظن ان التطرف بكافة اشكاله قد انحسر في السنوات الماضية الا انه لا يلبث ان يفاجئنا فيعود قويا مرعبا وموحشا آخذاً في التشكل إلى صور أكثر تدميراً للمقومات الحضارية والإنسانية والمادية، بدليل أن العالم قد شهد ازدياداً مريعاً للأعمال الإرهابية، لا سيما أن معطيات العصر الراهن من جريمة منظمة وتوظيف التكنولوجيا ونقل المعلومة قد ساهمت فعلا في سهولة وقوعها. ان جرائم الإرهاب كما نعلم سلوكيات مروعة ومفجعة، وتفضح نهاية الإنسان وحقيقته في آن. إنه السقوط الذي يكشف عن عمق مأساة الإنسان وصراعه مع الإنسان. حال من البدائية والوضاعة في الانتقام أو الاجرام، وارتماء عقيم في عالم تشاؤمي وفي أوحال الضياع حيث الانكفاء على الذات، ورفض الآخر بثقافته وآرائه وحتى بوجوده. هذا السلوك قديم/ جديد في التاريخ البشري، فالذي يتقوقع وينغلق على ذاته خوفاً من الحاضر والمستقبل، إنما يمارس سلوكاً واضحاً يتمثل في (الرفض)، وعلى رغم انه موقن أن عليه المواجهة أو محاولة التكيف والتعايش على أقل تقدير، إلا أن عقليته لا تتجاوب مع الجديد (فكراً كان أم سلوكاً) كونه يعتقد انه يعرف ما لا يعرف الاخرون، وانه يمتلك الحقيقة الكاملة، ولذا فإن الحل- بحسب تصوره – اما ممارسة سلوك الرفض بتجاهل الآخر واحتقاره وعدم الاكتراث به وبالتالي الانغلاق على الذات، والتلذذ بالحلم النوستالجي، فالنوستالجيا هي حال فكرية برفض الواقع الراهن، والتمسك بوضع أو بفترة محددة. اما الحل الآخر فيتمثل في السلوك العنفي، وهنا الموقف الفكري يتحول الى سلوك اجرامي فالانتقام بإسكات الرأي الاخر بآلة القتل وهو السلوك الاشد دناءة وخساسة وقذارة عرفها قاموس التاريخ. كون صاحبها ذا عقلية مريضة وصدر ضيق، أي شخصية تضيق ذرعا بالنقد والاختلاف ولكونها ترفض التعددية والتنوع. ان أشنع شيء في الوجود هو ان تنتصر في معركة ضد من يجادلك فكرا بتصفيته جسديا. قتل من يعارضك في الرأي سلوك مقزز يصادم قيم الإنسانية جمعاء. ان اختلافنا على الحقيقة أساسه اختلاف الناس فيما بينهم، والتحولات والمتغيرات التي تحدث أمامنا أو نشهدها ما هي في واقع الأمر، سوى نتيجة للفعل الإنساني، فإذا كان الفكر هو وليد الواقع، فإن الفكر الاجتماعي، في تقديري، هو مكمل للواقع الاجتماعي، وبالتالي فإن كليهما يؤثر ويتأثر بالآخر. والمفترض ان في هذا اثراء لمعنى الحياة الا انه في حالة التطرف هو تدمير لها. إن رفض التحديث هو أبرز ظاهرة التخلف التي تتسم بها بعض المجتمعات، وهي التي تنزع لنمط نوستالوجي ماضوي تقليدي ما جعلها تشكل ثقافة مضادة لمفهوم الانسنة، لأنها ثقافة استلابية رافضة للتغيير والتطور الاجتماعي. على ان الملاحظ في أن التيارات والاتجاهات تتساوى في طريقة رد الفعل من حيث الموقف الفكري وقد تتباين على الصعيد السلوكي طالما انها نزعت لدائرة التطرف، فالاسلاموي حينما يرفض الواقع، فإن النتيجة هي (العنف) لأنه بذلك يعارض ما يخالف توجهاته وقناعاته التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تبديلها ودون الالتفات الى واقع الحال. بيد أن هذا ينسحب على أي تيار أو أيديولوجيا معينة لا سيما إذا تطرفت في فكرتها إلى درجة الوصاية والمطلق وليس بالضرورة ان تكون النتيجة العنف بقدر ما يعني ان قناعة هذا المؤدلج ترى الاخرين دائما على خطأ وانه هو الصواب بعينه. وهذا يعني أن خطاب كل منهم يرنو إلى الغاية ذاتها، وينزع إلى الاتجاه نفسه، ويكرس طبيعة النهج ذي الرأي الأحادي - وفق تصور ذاتي -، ومن هنا نجد أنه على رغم اختلاف مضامين ومحتويات كل خطاب، إلا أن الغاية هي واحدة والسلوك هو واحد: عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات، والحل يكمن في التمسك بما يؤمن به في قرارة نفسه. فالقوموي أو الماركسوي أو الاسلاموي.. الخ كلها تنطلق من أرضية واحدة - وفق تصورها طبعا- بمعنى أن معتنق هذه الأيديولوجيا في مفهومها المتطرف، يرى أنها هي الحقيقة الوحيدة والصحيحة والمطلقة، ولا شيء غيرها، لأنه يرى فيها أنها الحل الواحد، كونه يربطها بذلك الحلم النوستالجي، فيجعلها حكماً على التاريخ، لا جزءاً منه، مع انه - على سبيل المثال - الفترة الناصرية (فكرة القومية العربية) كانت جزءاً من التاريخ ضمن معطيات ومؤثرات في فترة معينة ومحددة، لكن (القوموي) هو من يرى تلك الأيديولوجيا شعاراً يجب أن يطبق، رافضاً ومتجاهلاً متغيرات العصر وظروفه ولذا فهو يتشدد في الدعوة إلى تطبيقها، كما جاءت في الخطاب الناصري آنذاك، وليس مثلا بصورة قومية حديثة على غرار الاتحاد الأوروبي، وعلى ذلك قس. إن تطرف المؤدلج أياً كانت ايديولوجيته نلمسه في إصراره على امتلاك الحقيقة المطلقة وهذا تصور لا يوافق المنطق ولا يتماشى مع مفهوم النسبية وطبيعة الأشياء ما يعني انه رهين لأيديولوجيته وبالتالي هي حالة اختطاف للعقل وبامتياز، ما ينتج عنها حالة رفض للواقع من خلال الاصطدام مع المجتمع..