الأيام هي الأيام.. لكن ما أسرع ما تتصرم الأيام الجميلة في حياتنا، هناك ومضات في حياة المجتمعات لا يمكن أن تُنسَى، ربما مواقف أو كلمات أو مشاهد وربما أشخاص.. وفي ميادين الشّعِر الموازي، حيث يحلو الكلام وتُستعذب الأحاديث، وتتسع الأحداق المتذوقة، وتنتشي الأرواح المتشوقة، تطوف بنا الأشعار مباني ومعاني وصورًا جمالية وموثقات وأخيلة متناهية الجمال وقصائد نادرة وشعراء أفذاذًا حفروا أسماءهم ورسومهم في ذاكرة الشّعِر الموازي الخالدة من حيث الجزالة والإثراء... وهنا لمحة عابرة عن أحد فرسان هذا الفن الموازي المتأخرين الذين ذاع بالإبداع والأصالة صيتًا، إنه الراحل سعد بن جدلان الأكلبي.. وجدته نابغة فنه في هذا الجيل فسمّيته «النابغة الأكلبي» ولأنني أعلم أنه سيُستخدم هذا اللقب لاحقًا، فإنني أنوّه إلى أن لي حق إطلاق هذا اللقب حصريًّا.. لماذا هو نابغة؟ لنبوغه في هذا الفن الأدبي الموازي وتميّزه على الشعراء من أقرانه وممن لحقوا به... فما هو النبوغ؟ ذروة الإبداع في فنٍ من الفنون البشرية.. والشاعر ابن جدلان أبدع في مختلف أغراض الشّعِر الموازي «طروقًا ومواضيع ومعاني..»، كما أبدع في فنونه «العرضة، المحاورة، المناسبات...». من روائعه قصيدة «خارطة الطريق» نستشهد منها ببعض الأبيات: يا ذا الجلال اللي عروشك فوق وأملاكك حدر ومهما تسامت به عروشه مستحيل ايطولها يا حي يا قيّوم يا ذا الأنافة والكِبر ما نافسك في عظْمتك مكر العباد وهولها وما نافسك من عمّر بيوته على سطح القمر واللي ترسّي فوق أقاليم المياه أسطولها حيث التعبير عن القيمة الإيمانية العميقة بلغة شعرية موازية إبداعية بسيطة وبنائية سلسة. وفي الجانب العاطفي تغزل بعذوبة المفردة وتغنّى بلهفة البدوي العفيفة واستحضر الصحراء والإبل والسحاب، استمطر جماليات الوصف من مخزونه المجتمعي وذاكرته الأصيلة، اقتنص الصور الشعرية من خياله الإبداعي المتفرّد. عرفته بسيطًا رغم شهرته، استمعت منه مشافهة منفردًا به خلال إحدى المناسبات فكان للهجته كاريزما جاذبة على الرغم من التهامه لبعض الحروف أثناء إلقائه والذي لا يتغيّر مهما تغيّرت المناسبات أو الشخصيات المتلقية له.. مِمَّا قاله: كل دار أرجعت وأنا سناوي عزتي للي سواتي عزتي له زادت الحمى فرحنا للمداوي والمداوي زود الحمى مليله يا جميله كن يطوي الحال طاوي والله إن كبدي على شوفك عليله والله إن قلبي على شوفك شفاوي مير لا بيدي ولا بيديك حيله سجليني في بحر حبك فداوي أنا مجنونك بعد مجنون ليله يا رقبة الخشف يا عين النداوي يا سراجيف الذلول المستحيله ومما يُميز أشعار «النابغة الأكلبي» أنه وصل من خلالها بالمفردة الدارجة لآفاق واسعة، حيث نافست المفردات الدخيلة على الشّعِر الموازي من خلال كتابات شعراء النت والمكاتب، وسما بها من دونية نظر بعض «المتثيقفين» وقارعهم بقوة جرسها وعمق معناها وجمالية توظيفها.. اختطف المتذوق بحداثة صوره الجمالية ومعاصرة معانيه وأصالة لغته الشعرية وحضوره الشعري قبل الآخرين بفكره.. كان إنسانًا بسيطًا وأديبًا عملاقًا، لكنه بالرغم من أنه تفجّر شهرةً في ميدان الشِّعر الموازي مع الانفجار الاعلامي مؤخرًا إلا أن الإعلام وبكل أسف لم يسبر أغواره الأدبية الأخرى، وإن كانت محدودية رؤيته أو رؤية مَن حوله أسهمتا في هذا القصور في حقه.. فقد كنّا نحتاجه مقيّمًا في لجان المحاورات الشعرية، كما أنه قد يكون له دور في رصد التأريخ الأدبي الموازي والتوثيق لأحداث وشعراء جيله ومَن سبقه... وللشاعر ابن جدلان أبيات لا تُنسى في قصيدته الخالدة «ودنا بالطيب»: ودنا بالطيب مير الدهر جحّاد طيب كل ما تخلص مع الناس كنك تغشها يدك لا مدت وفاء لا تحرى وش تجيب كان جاتك سالمه حب يدك وخشها كل ما شبيت نار المحبة مع حبيب قام يسحل في مشاهيبها ويرشها وكل ما واجهت لك فالزمن وجه غريب مثل ما قال المثل: دام تمشي مشها وذمة ما هيب تندار للحق المصيب جعل قشاش الحطب لا سرح يقتشها النابغة الأكلبي حالة شعرية ذات تنوعات فكرية وأدبية واجتماعية تحتاج منا لدراستها وفاءً لشيء من حقه وإثراءً للساحة الشعرية الموازية.. كما أننا نحتاج لنشر أبياته وربما قصائده التي لم تُنشر وقد أجزم بأن في الجعبة الموروثة من الإبداع ما نحن بحاجته.. لم يكن هذا المقال سيرة ذاتية لابن جدلان ولكنه إطلالة من نافذة الذكرى على باحة إبداع أدبية تربّع على أحد مقاعدها الوثيرة شاعر بقيمة وقامة سعد ابن جدلان «النابغة الأكلبي». مبارك الودعاني