كانت مفاهيم «السعادة» والمصطلحات المرتبطة بها مجالا خصبا لتحليلات الفلاسفة، ونصائح الحكماء في كل حقب التاريخ البشري، لكن وصفاتهم كانت تختلف من ثقافة إلى أخرى، بل ومن اتجاه فلسفي أو خلفيات حكمة معينة إلى أخرى داخل الثقافة نفسها. فمن تلك الاتجاهات ما كان يركز على المقتنيات أو الحيازة المادية لكثير من مقومات الحياة الأساسية أو الكمالية، أو المحيط البشري بالشخص، الذي يوصف بالسعادة من عدمها، وبعضها - خاصة ما كان يوصف بالحكمة - يهتم أكثر بصفات شخصية ومقومات ذاتية للتعامل مع عناصر الحياة المختلفة، كالقناعة والثقة في النفس ومحبة الآخرين والتضحية من أجلهم، وغير ذلك من الصفات الحميدة. وبالطبع يصعب التوفيق بين مفاهيم السعادة المختلفة في ثقافات البشر المتباينة، ومدى حكمهم على رضا الإنسان عن نفسه، وعن موقعه في المجتمع، وكذلك عما حققه وأنجزه في حياته. لكن الأمر لا يخلو من مشتركات بين تلك المفاهيم، وأطر تضعها الشعوب - على الأقل في كل حقبة تاريخية - لوصف أوضاع الأفراد والمجتمعات أحيانا بصورة عامة. فمن تلك الأطر مثلا ما كان يتمناه الأوروبيون وغيرهم من سكان شمال الكرة الأرضية البارد جدا في فصل الشتاء، حيث يتمنون أن يحظوا بأوقات طويلة في بلدان الشمس الدافئة على البحر المتوسط أو في أي مكان آخر. وهذا جعلهم يحسدون أصحاب تلك البلدان الواقعة في مناطق دافئة، ويصفونهم بالسعادة، خاصة أنهم يضحكون كثيرا، ولا يهتمون بمصاعب الحياة، التي تكتنفهم في كثير من شؤون حياتهم. وكذلك الأمر في البلدان الصحراوية، التي يندر فيها وجود المياه، وبالتالي تقل فيها المساحات الخضراء، فنجدهم في أدبياتهم يغبطون أصحاب الطبيعة الجميلة، حيث تجري الأنهار، وتكتسي الأرض بالخضرة والأشجار والأزهار بألوانها وأشكالها المختلفة. وبالمثل يتمنى كثير من سكان البلدان النامية أن يكونوا مثل مواطني البلدان المتقدمة؛ كونهم ينعمون بالتقنية والمنتجات المتطورة، ويتمتعون بالكهرباء المستمرة وحاليا خدمات الانترنت وغيرها، ويصفونهم بأنهم أسعد من أحوالهم كثيرا. وإذا تركنا الانطباعات الشعبية عند بعض المجتمعات عن المجتمعات الأخرى، مما قد يكون صائبا، أو فيه كثير من المبالغات، فإن بعض الدراسات حاليا قد بدأت تستقصي هذا الموضوع بطريقة علمية، لا تعتمد على انتقاء بعض العناصر دون غيرها. فقد اهتمت مجلة ناشيونال جيوغرافيك مؤخرا بهذا الملف، وطبقت بعض المعايير المعتمدة في دراسات معمقة بهذا الشأن. وكان نصيب ثلاث دول من ثلاث قارات مختلفة هو الأوفر قياسا بغيرها من المجتمعات، حيث نالت كل من النرويج وكوستاريكا وسنغافورة قصب السبق العالمي في معايير السعادة. فما الذي يؤهل هذه المجتمعات لاحتلال القمة في هذا السلّم؟ وما الذي يجمعها أيضا في معايير التنمية، أو المكونات البشرية، أو قدرات الإنتاج؟ في الواقع أنها تختلف كليا في مستوى التنمية والملاءة المالية والكثافة البشرية، مثلما تختلف أيضا في الموقع والمناخ، وسعة الرقعة الجغرافية، وكذلك في ترتيبها على سلم التقدم العلمي ومستوى التنمية. لكنها جميعا كان يتميز أهلها بأنهم يشعرون بالرضا التام عن حياتهم، ويقل مستوى القلق لديهم على مستقبل أولادهم، ولا يحس مواطنو هذه الدول بخوف من فقدان وظائفهم، أو عدم قدرتهم على تحقيق طموحهم على المستوى الشخصي والأسري. وبذلك تفوقوا على كثير من الدول المتقدمة عنهم في مجالات التنافس الكبرى.