كان الناقد المعروف الدكتور فيصل درَّاج أعمق إدراكاً، وأكثر واقعية فهو يرى أن الإبداع الروائي في الوطن العربي ظهر في بيئة ثقافية لم يكن هذا الفن الحديث من موروثها فهي لاتحترمه ولا تعرفه، ولا تدرك قيمته وغير متهيئة له فلم يجد القبول العام لينتشر ويؤثر.. وقد تناول هذه الوضعية المغلقة في فصل كامل من كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية) البدايات الإبداعية تمثل طفرات في مجالاتها فهي تتطلب في بعض المجالات قدرات استثنائية خارقة فالبدايات هي خَلْقٌ وإبداعٌ لما ليس موجوداً من قبل، إنها تضيف تصوراً جديداً وآليات جديدة فهي تبتكر العناصر وطريقة التكوين وأسلوب البناء والشكل النهائي له، كما تحدد الاتجاه والمسار والأدوات والنهايات فيستضيء بكل ذلك مَن يستطيعون مواصلة المسيرة الإبداعية فنقطة النهاية محكومة بنقطة البداية وحتى لو لم يولد العمل الإبداعي الأول مكتملا فيكفي أنه يفتح أُفقاً جديداً لأهل الطموح.. إن بذرة صغيرة تنقلها الرياح إلى أي مكان فتستقر في الأرض ثم تنبت إن وَجَدَتْ بيئة مناسبة تصير شجرة ضخمة ثم تتطاير منها البذور فتصير غابة إن كانت البيئة متهيئة وكذلك الريادات الخارقة تؤسس لطفرات تستمر في التوالد والإنتاج في مجالات الفكر والفعل والفلسفة والعلم والعمل والفن والأدب والاكتشاف والمغامرة فتتعاظم الإنجازات البشرية مع نفس المسارات ثم تتوالد منها مسارات فرعية ثم تتشعب الفروع وبذلك تتدفق أنهار الحضارة للإرواء والخصوبة والإثمار، وتمتد عبر الزمان والمكان فيجد اللاحقون مجالات مفتوحة وطُرُقاً ممهَّدة وأساليب متنوعة وأفكاراً زاخرة ومعارف تضيء العقول وتنير الدروب وتفتح الآفاق، لذلك لا تنهض المجتمعات إلا على جناحي الريادة الفردية الخارقة والاستجابة الاجتماعية الكافية وبهما أيضا تتقدم الحضارة... ولعل من أبرز الحقائق أن الرواد في مختلف المجالات سابقون لمجتمعاتهم فهم نتاجُ أنفسهم وليسوا نتاج البيئة التي يعيشون فيها فهم استثنائيون بادئون مؤسسون فتحتذيهم الأجيال التي تأتي بعدهم.. ولأن الفن الروائي في أعالي ذُراه المدهشة هو من أصعب وأدق وأروع وأفخم الإبداعات البشرية وأشدها تركيباً وتعقيداً فمن الواجب أن يكون الحديث عن الرائد المؤسس المبدع الأسباني سرفانتس فهو المؤسس لهذا النوع الإبداعي المركَّب الذي تعاظم نموه واشتد انتشاره ومازال ينمو ويتسع مداه ويحمل تأثيرات واسعة وعميقة ومتنوعة حتى صار من أوسع الفنون انتشاراً ومن أعمقها تأثيراً ومن أعظمها إمتاعاً ولم يكن سرفانتس مبدعاً فقط للنوع أو للشكل وإنما كان مبدعاً لاتجاه جديد في تعرية الانتفاش الفارغ والنفخ الكاذب والتعالي الساذج. لقد استخدم بنجاح باهر السخرية من الإرستقراطيين المنتفشين الفارغين، وتهكَّم بهم وجسَّد سلوكهم تجسيداً يثير الضحك ويكشف عن النفخ والفراغ وبالمقابل فإنه اختطَّ اتجاهاً جديداً في الارتقاء بأوضاع الإنسان الفرد من عامة الناس والاهتمام به وتأكيد أهميته وإبراز قيمته والاعتراف بحقه في الاحترام والكرامة والاستقلال فكراً واختياراً فقد كان سرفانتس بهذه الريادة الخارقة فاتحاً لإبداعات روائية زاخرة ذات اهتمامات متنوعة بل بالغة التنوع مضموناً وأسلوباً. إن هذه الإبداعات المتنامية قد أثْرَتْ الحياة الإنسانية ثراء لايمكن حصره لقد أيقظت الإنسانية إلى الفرق الهائل بين جمال المثال، ودمامة الواقع، بين عَظَمة الحلم المأمول، ووضاعة الواقع المعاش.. إن الفن الروائي هو الفن الذي اهتم بالإنسان الفرد بعد أن ظل مهملاً خلال القرون كما اهتمَّ بعامة الناس الذين كانوا منسيين فراح الفن الروائي يتحسس وجودهم ويكشف عن القيود التعسفية المفروضة عليهم ويتعرف على آمالهم ويتعاطف مع آلامهم ومشاعرهم وطموحاتهم، ويصوِّر حياتهم اليومية في أدق التفاصيل وأقوى المشاعر.. إنه يتعامل مع عامة الناس بحرارة وانفعال وعمق فيُشعر الجميع بأنهم محل عنايته إنه لايتخذ فرداً بعينه موضوعاً له وإنما موضوعه هو كل الأفراد إنه يتقصَّى مشكلات الإنسان ويعمل على إبرازها كما أنه يقف ضد الاستبداد السياسي ويمقت الانغلاق الثقافي، ويتمرد على الوصاية المتعنتة ويدافع عن حريات الناس ويوقظهم لحقوقهم ويُدين إجراءات التحكم والكبت والتعسُّف والقهر، ويسخر من التعالي والانتفاش الفارغ ويتهكم بالنفخ والادعاء والتفاخر لذلك فإن ما أنجزه سرفانتس بمقدار ما هو طفرة في الفن فإنه يمثل طفرة في الاهتمام بالإنسان الفرد وخياراته وكرامته وحرياته واحتياجاته ومآثره ومآسيه وهمومه واهتماماته ومطالبه ومباهجه ولوعاته. وحين نقول الفرد فإننا نعني كل الأفراد وكل الناس فالفن الروائي يهتم بتفاصيل حياة كل الناس الذين أهملهم التاريخ.. لذلك لم يكن غريبا ولا مبالغة أن يقارن الناقد العالمي ميلان كونديرا في كتابه (ثلاثية حول الرواية) بين سرفانتس وديكارت فيقول :(الواقع أن مؤسس الأزمنة الحديثة ليس ديكارت فحسب بل كذلك سرفانتس فإذا كان صحيحاً أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان فإنه يظهر بوضوح أن فنًّا أوربيًّا كبيراً قد تكوَّن مع سرفانتس وما هذا الفن إلا سبر هذا الكائن المنسي). إن الإبداعات الروائية كانت الأسبق والأعمق في الالتفات إلى الإنسان بصفته المجردة المنبتَّة عن أي تصنيف أو انتماء كما كانت هذه الإبداعات هي الأسبق والأعمق في الغوص في أعماق النفس الإنسانية وسبر أغوارها المتداخلة وتحليل تركيباتها العجيبة وفحص مكوِّناتها المعقدة فالروائيون شخَّصوا تنوعات النفوس وأبرزوا دواخل الذوات وتوغلوا في دهاليز اللاوعي وتعرَّفوا على الأحلام والطموحات والآمال والآلام ووصفوا خلجات النفوس وخفقات القلوب واضطرابات العواطف وتمردات العقول فكوَّنوا مادة غزيرة متنوعة من الحالات والأوصاف والتجليات أعطت مفاتيح لفهم الطبيعة البشرية وتمييز تجلياتها المختلفة، كما أصبحت هذه المادة الغزيرة عوناً كبيراً لمؤسسي علم النفس وللباحثين في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية كما باتت عوناً للناس ليتعرَّفوا على تنوع الطبائع الفردية وما تنطوي عليه النفس البشرية من قوة وضعف وصلابة وهشاشة ورأفة وقسوة وإنسانية ووحشية ورقّة وغلظة وذكاء وغباء وانبساط وانطواء وتوقُّد وانطفاء وفاعلية وكلال وانفتاح وانغلاق وتسامح وتعصب وتجاذب وتنافر وحب وكُرْه... ومثلما أن الناس يختلفون فإن الروائيين أيضا يختلفون في اهتماماتهم وأساليبهم وهذه الاختلافات جعلت الفن الروائي بالغ الثراء والتنوع، وكما يؤكد ميلان كونديرا :(أن كافة الثيمات الوجودية الكبرى إنما تم الكشف عنها وبيانها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوربية.. لقد كشفتْ الرواية واحدةٌ بعد أخرى بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص مختلفَ جوانب الوجود : تساءلتْ مع معاصري سرفانتس عما هي المغامرة وبدأت مع صموئيل ريتشاردسون في فحص ما يدور في الداخل وفي الكشف عن الحياة السِّرِّية للمشاعر واكتشفتْ مع بلزاك تجذُّر الإنسان في التاريخ وسَبَرَتْ مع فلوبير أرضاً كانت حتى ذلك الحين مجهولة هي أرض الحياة اليومية وعكفَتْ مع تولستوي على تدخُّل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري.. إنها تستقصي الزمن : اللحظة الماضية التي لايمكن القبض عليها مع مارسيل بروست واللحظة الحاضرة التي لايمكن القبض عليها مع جيمس جويس وتستجوب مع توماس مان دور الأساطير التي تهدي خطانا وهي الآتية من أعماق الزمن..) فكل روائي تشغله وتستغرق اهتمامه قضية كبرى أو مجموعة من القضايا فيقدمها للناس ليس بكلماتٍ جافة باردة غير مؤثرة وإنما يقدمها وهي تتأجَّج في دنيا الحياة وتتصارع مع مشكلات الوجود.. إنها تأتي مجسَّدة جياشة فيسهُل الفهم ويتسلل التأثير.. جاء الإبداع الروائي قصداً لنقد التقاليد العتيقة المعيقة وإحداث قطيعة مع الرتابة الجامدة ومع التسليم الأعمى وتحريك عقل الفرد ليستعيد ذاته ويبني نفسه ويطلق خياله المعتقل ليحلق في الآفاق ويتحرر من المسلَّمات، وينطلق غير هياب يغامر مع كل الفجاج ويكتشف ويُنتج ويبدع ويخترع ويبتكر ويستقل في تفكيره وخياراته ضمن إطار خيارات الآخرين وسيادة القانون، ونجد توضيحاً لهذا التحول الكبير في كتاب (نشوء الرواية) لإيان وات إنه كتابٌ عميق يستحق أن يُقرأ بعناية وتفهُّم.. وكما يكتب المثقف المصري المعروف علي أدهم عن أهمية الفن الروائي فيقول :(في فهم حوادث التاريخ عن طريق إدراك العواطف المسيطرة في نفوس الأبطال هو الذي يروقنا ويمتعنا وينير بصائرنا في قراءة روايات دستويفسكي وتولستوي وبلزاك وستندال وزفايج وأضرابهم من الروائيين الكبار الذين يكشفون لنا أسرار الحياة وأنسجة المجتمع عن طريق تعمقهم في فهم نفسية أبطال رواياتهم واستطاعتهم أن يصفوا لنا خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم، والأزمات النفسية التي مروا بها وتعرضوا لمحنها وآلامها) لكن الذين تربوا على التمجيد المطلق للموروث لايدركون أهمية هذا الفن الحديث الرائع ولا يعرفون دلالته الإبداعية العالية، ولا يؤمنون بتأثيره الواسع مع أن العلماء في كل العالم يدركون روعة وصعوبة الإبداع الروائي بسبب بنيته المركَّبة وكما كتب محمد الأتاسي في كتابه (لمحات من الإبداع العلمي) :(يتميز فن الرواية بميزة التركيب إذْ من الطبيعي أن المؤلف الروائي يتصور مثيلاً لما يجري في الواقع أو يُركِّب أحداثاً مستنتَجة من أحداثٍ من الواقع بقصد إبراز فكرة معينة ولكنه يُبرز واقعاً معينًّاً من خلال تفاعل شخصيات الرواية وأحداثها). وبينما يؤكد الأتاسي أن الفن الروائي فنٌّ تركيبي دقيق لايجيده سوى المتميزين فإنه يوضح بأن :(عملية التركيب نادرة في العلم) ما يؤكد امتياز المبدعين في هذا الفن التركيبي الصعب وهذا المعنى يتكرر تأكيده في الكثير من الدراسات العلمية والأدبية.. إن المجتمعات التي مازالت فيها فردية الإنسان مطموسة لاتدرك عظمة التحول الذي حققه الفن الروائي على أوضاع الناس.. فقبل ظهور هذا الفن العجيب كان التاريخ مستغرقاً بتدوين الحروب وما فيها من مذابح وانتصارات وهزائم مع إبراز متضخِّم لقادة السياسة وقادة الحروب، ثم أشرق الفن الروائي ليهتم بالشعوب وليبرز أحوال الناس وليحاور الأفراد حتى يبوحوا بكل مايخالجهم، وليكشفوا طبيعة الحياة كما يعيشونها وكما يقول ميلان كونديرا :(تُصاحب الرواية الإنسانَ على الدوام وبإخلاص منذ بداية الأزمنة الحديثة). إن الفن الروائي قد أسهم في الارتقاء بوعي الفرد وتأكيد قيمته في المجتمعات الأوربية، وأوجد بين المجتمعات ترابطاً كان مفقوداً وقدَّم وسيلة متاحة للجميع للتعارف وإدراك التشابه فاكتشفت الشعوب القواسم الكثيرة المشتركة مع الشعوب الأخرى بل إن ميلان كونديرا يرى أن الفن الروائي هو الذي أبدع أوربا في ماتعيشه من تكامل وتقارب واتجاه إلى الاتحاد والاندماج فيقول:(إن الرواية هي مبدع أوربا وتنتمي اكتشافاتها جميعاً إلى أوربا كلها حتى لو تمت بلغات مختلفة) لكن لايدرك هذه الفاعلية الكبرى للفن الروائي إلا المجتمعات التي عاشت هذه الفاعلية أما المجتمع العربي فإنه مازال بعيداً عن النزعة الفردية الملائمة للفن الروائي فهذا الفن المبتكر ظَهَرَ ليبشر بالإنسان الحر المرن المنفتح القادر على محاورة الآخر المختلف، وتَفَهُّمه واستيعابه واحترام اختلافه، والتعايش الراقي مع هذا الاختلاف.. إن فاعلية الفن الروائي في تحقيق التحول الإنساني هي التي دفعت الناقد المعروف الدكتور على الراعي إلى المبالغة في التفاؤل حين أعلن في كتابه (الرواية في الوطن العربي) عن المجد الروائي فكتب يقول:(المجد للرواية العربية لقد جعلها أفضلُ المبدعين لسانَ حال الأمة وديواناً جديداً للعرب ومستودعاً لآمال وآلام أمتنا العظيمة المقطعة الأوصال). لقد بالغ في تأثير الإبداع الروائي في المجتمعات العربية بل أمعن في الخيال الحالم فقد ظهرت في العالم العربي إبداعاتٌ روائية عظيمة لكن التفاعل مع هذا الفن الطارئ العظيم لم يتجاوز الشريحة المثقفة، وبقي تأثيره محصوراً بالمبدعين أنفسهم وفئة أخرى قليلة غير ذائبة في البيئة لكن ليس لها تأثير على تفكير عامة الناس، ولا على سلوكهم فهي بمثابة جزيرة صغيرة معزولة وسط المحيط الواسع.. إن المبدعين العرب هم روادٌ يقرأ بعضهم لبعض أما الشعوب العربية فلم تستجب لهم ولم تتأثر بهم إلا بمستوى محدود جداً لا يرقى إلى مستوى الفاعلية القادرة على التغيير التي كان يتمناها الناقد الراعي.. لذلك كان الناقد المعروف الدكتور فيصل درَّاج أعمق إدراكاً، وأكثر واقعية فهو يرى أن الإبداع الروائي في الوطن العربي ظهر في بيئة ثقافية لم يكن هذا الفن الحديث من موروثها فهي لاتحترمه ولا تعرفه، ولا تدرك قيمته وغير متهيئة له فلم يجد القبول العام لينتشر ويؤثر.. وقد تناول هذه الوضعية المغلقة في فصل كامل من كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية) فأكد أن:(بين الإبداع والمحاكاة القامعة فرقٌ هو الفرق بين إعادة إنتاج الموروث وإنتاج جديد غير مسبوق أو هو الفرق بين ذات كاتبة تنسخ ما تعلَّمتْه بأدواته ولغته ومنظوره .. و(أنا) مبدعة تعلن عن حضورها المستقل والطليق فيما تقرأ وتكتب إضافة إلى هذا فإن الذات المستقلة، وهي حرة وطليقه، تُخبر عن حريتها في اعترافها بحرية ما هو خارجٌ عنها أي بحرية الناس الذين تحاورهم وتعمل وتكتب لهم). إن د. فيصل درّاج يعلن بمرارة أن الرواية العربية كالشيء في غير موضعه، وأن محاولة توطينها تشبه محاولة تخضير الصحراء القاحلة الملتهبة بأشجار السرو المترفة التي لاتنبت وتنتعش وتكون على طبيعتها الجميلة إلا في بيئة رطبة باردة منتظمة المطر كبيئة جبال الألب وسط أوربا فالرواية العربية قد ظهرتْ في حقل ثقافي غير روائي كما يؤكد درَّاج وبسبب هذا الجفاء العربي لهذا الفن الحديث لم يحقق التأثير الذي يتناسب مع أهمية المنجَز الإبداعي.. إن رواج الإبداع الروائي يتطلب بيئة تعترف بالإنسان الفرد، وتؤمن بحقه في الاختلاف وتدرك قيمة التعايش الكريم بين المختلفين ويتصرف فيها الإنسان بوصفه فرداً مستقلاً يملك كل خياراته التي لاتصطدم بخيارات غيره. وكما يقول د. فيصل درّاج:(إن الرواية سيرة لواحد من الناس محدَّد الاسم والمصير، وهي في اللحظة عينها سيرة لبشر لايعرفونه كما لو كانت السيرة الفردية الروائية دائماً سِيَراً أخرى تحايثها وتفيض عنها لأن البشر الذين تتحدث عنهم يختلفون متساوين، ويتساوون في مدار الاختلاف.. إن الرواية تستدعي الفردية المستقلة في اللحظة التي تستحضر فيها التاريخ الاجتماعي الذي تصوغه ويصوغها؛ ذلك أن الرواية وبسبب حداثتها تعترف بالمتبدِّل والمتغيِّر أي بالتاريخ المنفتح على المجهول.. إن الرواية تبدأ بالذات الإنسانية الحرة التي تُخَلِّف وراءها زمن الكليات المغلقة لتدخل إلى زمن الخصوصيات المفتوحة). إن الإبداعات الروائية كما قيل بحق هي تاريخ من لا تاريخَ لهم، وقد تغيَّر بها مفهوم البطولة لذلك فإن الشخصيات الروائية مثل : هاملت وفاوست ودون حيخوت، ومدام بوفاري وغيرها صارت في العالم أكثر شهرة وتداولاً على الألسن وفي الكتابات من الشخصيات التاريخية الحقيقية بل نجد علماء من مختلف الفروع العلمية يستشهدون بمقاطع من روايات أو يجعلون بعض الشخصيات الروائية نماذج وأمثلة لتوضيح أفكارهم.. ومثلما بادر الفيلسوف العربي الدكتور عبدالرحمن بدوي إلى ترجمة رائعة جوته (فاوست) فإنه أيضا بادر بترجمة رائعة سرفانتس (دون كيخوته) في مجلدين، كما كتب مقدمة تتضمن تعريفاً بالمبدع وإبرازاً لأهمية إبداعه، وإجمالاً للموضوع الرئيسي الذي اضطلعت الرواية به أما الاهتمام بهذا الرائد الذي علَّم نفسه فإنه في كل العالم لايتوقف سواء على المستوى الأكاديمي أو على مستوى النقاد والباحثين والدارسين والكثير من الدراسات التي صدرت عنه مترجَم إلى العربية.. إن سرفانتس رائدٌ مدهش فَتَح لأوربا وللعالم عوالم واتجاهات لم تكن معروفة من قبل.. لقد خلق فنًّاً جديداً، وأوجد اهتمامات جديدة وحرك مواهب كامنة كان يمكن أن تظل مطمورة في تلقائية الانتظام في السائد، والاغتباط به والاستسلام له واستبعاد الشك فيه أو محاورته أو التحقق منه.. ليس هدفي من هذا المقال أن أقدم مبدعاً معروفاً فاضت المكتبة العالمية تعريفاً به ولكنني أقدمه شاهداً لنظرية (الريادة والاستجابة)، ونظرية (عبقرية الاهتمام التلقائي). ويؤكد كولن ولسون في كتابه (فن الرواية) أن الفن الروائي قد اضطلع بدور مهم في التطور البشري ثم يقول:(الهدف الأساسي من الرواية ارتبط بالإحساس بالحرية كما أصبحت مشكلة الحرية أحد موضوعاتها الرئيسية)، ويقول عن الرواية الأولى لسرفانتس:(تقدم لنا "دون كيخوته" بلداً بأكمله وحقبة بكاملها وكأنك تشاهدها من قمة جبل بواسطة تلسكوب). ويقول الدكتور خالد الحروب:(فالرواية وعبر تنوع موضوعاتها وكثافة أبعادها الاجتماعية والسياسة والثقافة وجموح كتّابها تُوَفِّر مسباراً بالغ العمق واسع الانتشار جريء المعالجة لاختبار التحولات القائمة في مجتمع ما، أو تلك الكامنة وقيد التحول). تقول ماري إيفانز (جورج إليوت):(لاخير في فن روائي لايجسِّد الحق ولا يسعى للخير ولا يحقق الجمال). الرواية أساساً تسخر من الأعمال المبالَغ فيها التي تنسب للأبطال الرومانسيين. كتب سيرفانتس الرواية بدءاً من عام 1605 وكلها تنوعات لفكرة أساسية واحدة هي العلاقة بين الوجود المثالي، والوجود الواقعي والتي تظهر حماقات الإنسان الذي يأخذ الرومانسيات على محمل الجد، والتصوير الساخر للبطولة. يدرك سانشو أن الأشياء التي يعتبرها الناس حكمة هي غالبا حمقاء وقاصرة أخلاقياً، وأن الإنسان الذي يرغب في فعل الخير فقط يعتبر مجنوناً.. الصراعات الأبدية هي بين الحلم والواقع، بين المثالي والنبيل، وبين الواقعية غير النبيلة، بين طهر الهدف، والنتائج المزعجة..