تختلف كثير من الفلسفات في تعريفها لمفهوم السعادة، وكثير منها يدور حول وصف السعادة بأنها شعور ينتج إثر الرضا عن النفس، وأفلاطون يعرفها بأنها اتباع الفضيلة، وغيره يعرفها بأنها شعور يعود إلى الفعل الموافق للعقل. هي شعور إذن، يختلف باختلاف الأفعال، فالفعل (أ) قد يبعث السعادة لشخص ما لكنه قد يبعث الحزن والأسى لآخر، قد يبعث القتل مثلا الندم والحزن ولكنه في حالة الدفاع عن النفس قد يبعث على السعادة. معيار الفضيلة لن يغير كثيرا في هذا الكلام، لأن معايير الفضيلة تختلف باختلاف الثقافات، ومن سياق لسياق آخر، كذلك العقل ينطبق عليه الكلام نفسه، وما يجمع بين هذه الأوصاف أن شعور الرضا الذي يجلب أو ينتج السعادة تختلف أسبابه من ثقافة لأخرى ومن فرد لآخر، وكذلك تختلف باختلاف السياقات التاريخية والظروف المحيطة بها. في العصر الحديث وبعد سنوات من بناء الحداثة الغربية ظهر مصطلح (الحلم الأمريكي) عام 1931م، وهو يشير إلى أن هدف الديمقراطية هو السعادة والازدهار، من خلال تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية، وقد استشهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووعد بهذا الحلم أثناء ترشحه في انتخابات الدورة الأولى من حكمه، ولكن هذا (الحلم الأمريكي) يواجَه بكثير من التهكم والنقد، فالبعض يرى أنه تحول من حلم يدور حول الحرية والعدالة ويعد بها، إلى حلم يدور حول الوظيفة المرموقة والرصيد البنكي ذي الأرقام الطويلة والسيارة الفارهة والشقة الواسعه ذات الإطلالة المميزة والطائرة الخاصة والرحلات السياحية، أي يدور حول الحياة المرفهة المادية التي تدور حول اللذة الخاصة، والتي لن يمانع الأفراد من الوصول إليها عبر الغش والخداع بدلا من العدالة وتكافؤ الفرص. الواقع أن هذا الحلم، وهذا التنميط لمفهوم السعادة لم ينحصر في الولاياتالمتحدة ولا في الغرب، بل تمدد في الوعي العالمي، بحكم اختراق الحداثة لجدران الثقافات الأخرى، فصار الإنسان يقيس سعادته بما ينتجه ماديا، ولست أعني بالمادة المال فقط، بل أعني كل إنتاج مادي، حين يعلمونك صياغة أهدافك، يقولون لك دوّن ماذا ستدرس، وعلى كم شهادة ستحصل، وإلى أي وظيفة سيصل طموحك، حتى لو كنت كاتبا أو مثقفا، سيقولون لك دوّن إنجازك بعد عشر سنين، كم كتابا ستكون قد ألفت، فصار الإنسان يقاس بالأرقام التي يخلفها وراءه، أو بالأحرى صار خطا للإنتاج، مثل خطوط إنتاج المصانع. مشكلة هذا التنميط والذي أصبح تنميطا شموليا أن من لا يجد نفسه فيه، سيشعر بالحزن حتى لو قضى وقته فيما يجلب إليه السعادة، لأن مفهوم العقل والفضيلة أصبحت تتحكم فيه القوى العالمية، وإن قبل هذا الشخص الدخول في هذا النمط أيضا سيكون حزينا لأنه لن يجلب إليه السعادة. هذا المفهوم يؤثر في حديثنا على تقرير مصيرنا، كما يحدث في غزة اليوم، فبعض الكتاب -وهم قلة- يعتقد أن المقاومة معادلة خاسرة، لأسباب كثيرة بعضها يدور حول هذا المعنى، فالصورة الظاهرة أن فئة قليلة مستضعفة تقع في سجن كبير (غزة)، وهي تقاوم منذ عقود ولم تستطع حتى الآن أن تحرز التحرر الكامل، وبالتالي ما زال العدو الصهيوني يمارس بشاعته عليهم، الاستمرار في المقاومة يعني أن جيلا يفقد سعادته، لن يحصل على التعليم ولا (الرفاهية) ولا الوظيفة ولا الأرصدة ولا حرية الحركة، فما المانع أن يقبل الفلسطينيون بالاحتلال، حتى تتحقق لهم السعادة. في اعتقادي أن هذه إحدى مشاكل هذا التنميط المادي لمفهوم السعادة، حيث أصبحت كل حياة تخلو من الرفاهية المادية ليست حياة حقيقية، وأعود للتذكير بأن المادة ليست هي المال فقط، بل هي كل شيء مادي، الشهادة والوظيفة والعمران.. الخ. لا أقلل من شأن الرفاه والحياة المريحة ماديا، ولا أقلل أيضا من شأن الإنجاز المادي، لكني أنتقد هذا الحصر واستبعاد أن يتحقق الرضا بغير هذا الطريق، الرفاهية لا تقوم إلا على أساس من الحياة الكريمة والحرية والمساواة، وحين يفتقد الإنسان الحياة الكريمة لا يصبح لكل هذه الإنجازات قيمة إلا كقيمة المهرج على خشبة المسرح، وكقيمة إنجاز العبد الذي لا يملك شيئا بينما سيده يملكه هو وإنجازه. ينسى هؤلاء أن غزة تقع تحت احتلال، ويتحدثون عن فقدان الرفاهية وكأنها كانت موجودة، ولكنها فقدت بسبب المقاومة، ينسى هؤلاء الحصار الخانق على مدينة توصف بأنها الأعلى من حيث الكثافة السكانية، حيث تتراجع أساسيات الحياة، هنا سيعود السؤال، ما السعادة؟! الرضا عن النفس لا يتحقق إلا بحرية كاملة، تخول الإنسان أن يقرر مصيره الجماعي والفردي، وحين تُسلب هذه الطبيعة البشرية، وحين تغيب العدالة، وحين يعامل البشر بمستوى أدنى من البشر، تصبح السعادة ويصبح تحقيق الذات في استرداد هذه الكرامة.