في مشهد هو أقرب لإحدى اللقطات السينمائية المثيرة، هبطت طائرة ركاب عملاقة اضطرارياً فوق كثبان المنطقة الشرقية قبل أربعة وستين عاماً، بلا إصابات لركابها أو أضرار لهيكلها بفضل من الله ثم بمهارة وشجاعة قائدها، ومما أضاف إلى المشهد جانبا من الإثارة؛ العمل الجبّار الذي قام به موظفو أرامكو الأوائل في عملية رفع الطائرة ووضعها فوق شاحنة ونقلها إلى مطار الظهران لإصلاحها. ملخص الحادثة كانت طائرة الخطوط الجوية الملكية الهولندية KLM من نوع DC-4 المؤجرة لحكومة باكستان قد انطلقت في رحلة من لندن إلى كراتشي - وجهتها الأخيرة - وعلى متنها ستة وخمسون راكباً بريطانياًوباكستانياً منهم ست عشرة امرأة وخمسة أطفال، مع طاقمها المكوّن من عشرة أفراد. غادرت الطائرة روما مساء يوم الخميس متجهة إلى البصرة، وعند اقترابها وجدت أن مطار البصرة والمطارات المجاورة مغلقة بسبب الضباب وسوء الأحوال الجوية، فحاول قائد الطائرة الوصول إلى مطار الظهران، ولكن حينما اقتربت من المطار، نفد الوقود فاضطرّ قائدها إلى اتخاذ قرار الهبوط الاضطراري. في الساعة الثانية صباحاً من يوم الجمعة الثاني من يناير عام 1953م، هبطت الطائرة في منطقة رملية تقع على مسافة 32 كيلومتراً شمال غرب مدينة الظهران (تقريباً في بر مطار الملك فهد الدولي بالدمام من الجهة الشرقية)، ولله الحمد لم تقع أي إصابات لركابها أو أفراد طاقمها، أما الطائرة فلم تتعرض إلا لأضرار طفيفة جداً في ريش مراوح المحركات. الهبوط الاضطراري بعد إطفاء محركات الطائرة الثلاثة مع إبقاء عجلاتها مرفوعة وأنوارها مضاءة، هبط الطيار بذيل الطائرة على أحد الكثبان، ثم انحرف بها إلى اليسار قليلاً على كثيب آخر، وبخبرة عالية ومهارة فائقة وشجاعة متناهية استطاع قائد الطائرة إيقافها في منطقة رملية مفتوحة محاطة بكثبانٍ عالية كان ارتفاع بعضها يزيد على عشرة أمتار. وهكذا استطاع الطيار الماهر الواثق من نفسه ومن إمكانياته الهبوط بطائرته في أصعب الظروف والأماكن، فلم يكن أمامه أي خيار آخر، لقد نجح في مهمته دون وقوع أي إصابات للركاب أو طاقم الطائرة، وكانت أضرار الطائرة طفيفة ومحدودة. إدارة الأزمات فور وصول الخبر عبر إشارات الراديو أن إحدى الطائرات قد هبطت اضطرارياً وأنها استقرت بين الكثبان الرملية، تحركت الحكومة السعودية وأرامكو في التو للتعامل مع هذه الحالة الطارئة، وبعد تحديد موقعها عبر الرادار انتقلت إحدى الطائرات في أقل من عشرين دقيقة من مطار الظهران إلى الموقع وأنزلت طبيباً وفني اتصالات، وبعد دقائق هبطت طائرة هليكوبتر للإنقاذ، ووصل براً ضباط من الحكومة السعودية، وأحضرت ثلاث سيارات إسعاف ولكن لم يكن هناك حاجة لاستعمالها، كما أرسلت أربعون سيارة من الظهران مباشرة بعد الحادث. أقلت السيارات ركاب الطائرة مباشرة إلى مطار الظهران حيث كان في انتظارهم إحدى طائرات KLM إضافة إلى طائرة احتياطية من كراتشي، وتوجه الركاب إلى وجهاتهم في نفس اليوم، ولم يتعطّل وصولهم إلى كراتشي إلا بضع ساعات من وقتهم الرسمي الذي كان محدداً لهم. أما طاقم الطائرة المكون من عشرة أفراد فقد تمت استضافتهم في الظهران، ووصلت في الصباح الباكر ليوم الإثنين لجنة تحقيق من شركة KLM الأم في هولندا وتقابلوا مع كن وبستر مدير أرامكو في قطاع الظهران ووافقوا على رأيه في نقل الطائرة بمساعدة إدارة المعدات الثقيلة في أرامكو، ومن ثمّ يمكن الطيران بها إلى أمستردام بعد إجراء الإصلاحات. من الملفت للنظر تركيز جميع المسؤولين في إدارة الأزمة منذ ساعاتها الأولى على سلامة الركاب وأفراد طاقم الطائرة وراحتهم، وهذا الأمر كان في غاية الأهمية. رفع الطائرة بقيت الطائرة قابعة بين الرمال لمدة ثلاثة أيام تحت حراسة الجنود السعوديين، بينما أرامكو والمسؤولون في الخطوط الجوية الملكية الهولندية يخططون لعملية رفعها ونقلها وإصلاحها. عملية رفع الطائرة ونقلها لم تكن مهمة سهلة بل شكلت تحديا صعبا جداً لفريق العمل المكوّن من موظفي أرامكو من قسم المعدات الثقيلة إضافة إلى أربعة فنيين من KLM وممثل طائرات دوغلاس الشركة المصنعة للطائرة DC-4 الذين قدموا من أمستردام في هولندا، وأحضروا معهم الحقائب المطاطية الهائلة التي استخدمت في رفع الطائرة. قام الفريق بحفر الرمال تحت الجناحين حتى تمكنوا من وضع الحقائب المطاطية وبدأوا بنفخها حتى ارتفعت الطائرة عن الأرض مسافة تكفي لإنزال عجلاتها، وقاموا بعد جهد كبير بإنزال العجلات في عملية شاقة استغرقت يومين بسبب مشكلة ميكانيكية في التروس، وأعقب تلك المهمة تثبيت تراكيب خاصة في هيكل الطائرة بحيث تشبك أسلاك الرافعات العملاقة فيها، وباستخدام ثلاث رافعات كبيرة بدأت عملية رفع الطائرة، التي تزن 40 طناً، وتم وضعها فوق القاطرة التي تجرها شاحنة (كينورث) الكبيرة، وكي لا تتزحزح الطائرة من مكانها أثناء النقل، رُبطت عجلاتها. نقل الطائرة تحركت شاحنة الكينورث يقودها أحد موظفي أرامكو السعوديين الماهرين حاملةً الطائرة العملاقة، وعبرت فوق أول كثيب رملي وكانت الفرحة كبيرة عندما اجتازت الكثيب الأول بنجاح، واستمرت الرحلة الفريدة فوق الكثبان والصبخات، وقد عبرت فوق أحد خطوط الأنابيب تحت مراقبة من المسؤولين عنها حتى لا تحدث أضرار فيها، وعند مفرق أنابيب القطيف عبرت الشاحنة تحت خط الكهرباء الرئيسي القادم من رأس تنورة تحت مراقبة دقيقة من الفنيين، حتى انتهت من المنطقة الرملية التي بلغت 11كم ووصلت إلى الطريق الرئيسي حيث بدأت رحلة 38كم باتجاه الظهران إلى أن وصلت المطار. إصلاح الطائرة قامت شركة KLM بجلب القطع المطلوبة للإصلاح، وعند وصول الطائرة الورشة قام الفنيون من KLM باستبدال الريش وبعض القطع التالفة وأقلعت الطائرة بعد أسبوعين إلى أمستردام في هولندا. أهل للمسؤولية رغم أنها المرة الأولى التي يقوم فيها موظفو أرامكو السعوديين المشاركين مع فريق العمل برفع طائرة سليمة بهذا الحجم والوزن في منطقة تحيط بها الكثبان الرملية، إلا أنهم كانوا أهلاً للثقة، حيث إن هذه العملية تطلبت صبراً في الأداء ودقة في التنفيذ ومهارة في حفظ توازن الطائرة، وليس بمستغرب على الأجيال الأولى من موظفي أرامكو تحملهم للمسؤولية وتقبلهم للتحديات واعتبارها فرصاً لتحقيق الإنجاز وتطوير القدرات وتنمية المهارات. إعجاب وتقدير مما يبعث على الإعجاب ويستحق التقدير تعامل الحكومة السعودية وأرامكو مع هذه الحادثة الفريدة، حيث إنهم اعتبروا مد يد المساعدة والتعامل مع هذه المشكلة أولوية قصوى وكذلك الاهتمام بالجوانب الإنسانية والتعاون مع شركة KLM وجميع الجهات الأخرى، وكانت النتيجة عملاً احترافياً راقياً تمثل في توفير جميع وسائل الراحة للركاب وأفراد طاقم الطائرة حيث وصل الركاب إلى كراتشي في وقت قياسي وتمت استضافة طاقم الطائرة، إضافة إلى الحرفية والمهنية التي أظهرتها أرامكو من خلال الجهود الكبيرة لموظفيها وعملهم الجماعي مع الفنيين والمختصين من KLM وكذلك من خلال توفير جميع المعدات والأجهزة المطلوبة لمثل هذه المهمات. مدير أرامكو يقول كن وبستر مدير شركة أرامكو في منطقة الظهران: تلقيت مكالمة من البوابة الرئيسية الساعة الثالثة صباحاً بأن طائرة تابعة ل KLM وعليها 56 راكباً و10 من أفراد طاقمها قد هبطت في الصحراء 20 ميلاً شمالاً، لبست ثيابي بسرعة وتوجهت نحو البوابة لتجهيز المعدات وكان يدور في مخيلتي حينها منظر الوفيات والإصابات، أيقظت المدير الطبي وطلبت استعداد المستشفيين في الظهران وتحضير سيارات الإسعاف، وتحدثت مع ناظر الاتصالات لتوفير أجهزة وسيارات الاتصال اللاسلكي، وطلبت كل التجهيزات والمعدات الأخرى، وتوجهت مع فريق العمل إلى الموقع، وكانت دهشتي كبيرة عندما وجدت أن الركاب وطاقم الطائرة سليمان والطائرة في حالة جيدة. أما ممثل شركة دوغلاس المصنعة للطائرة فقال: رغم أن شركة دوغلاس قد قامت بتصنيع المئات من الطائرات، لكنها المرة الأولى التي تُحمل فيها طائرة على شاحنة، لقد كان نقل الطائرة وإصلاحها كابوساً بالنسبة لنا لكن الأمور سارت بشكل أفضل كثيراً مما توقعنا. صورة تبين الأضرار الطفيفة التي أصابت ريش المحركات حمل الطائرة بالرافعات الكبيرة ووضعها على شاحنة الكينورث عملية ربط الطائرة بالرافعات قبل رفعها فوق الشاحنة حمل الطائرة بالرافعات بينما يقوم عدد من الفنيين بمناقشة بعض الأمور الشاحنة وعليها الطائرة تعبر بنجاح فوق أول كثيب رملي وسط فرحة الجميع