قبل أكثر من 300 سنة قبل الميلاد، كان الشأن السياسي محصورا على نخبة من أصحاب الريادة من الفلاسفة وقادة الفكر والرأي، وفي ذلك العصر ابتكر المعلم (ارسطو) منطق (فرق تسد) ومن ثم لقنه لتلميذه القائد العسكري الاسكندر المقدوني أثناء غزواته الشهيرة، وبعد عدة قرون جاء المفكر الإيطالي نيكولو مكيافيلي بمقولته النفعية اللا أخلاقية (الغاية تبرر الوسيلة) التي تعلمها منه الطغاة في كل العصور اللاحقة، وفي العصر الحديث جاء ونستون تشرشل بمبدئه الدبلوماسي القائم على المصالح (لا عداوات ولا صداقات دائمة في العلاقات الدولية.. بل هناك دوما مصالح دائمة)، وهو المبدأ الذي (يشغل) العلاقات الدولية ويُدرس في الكثير من كليات العلوم السياسية حول العالم. اليوم - وفي هذا القرن الواحد والعشرين- بدأت ذات الفرد تتصاعد بالشعور كفاعل سياسي، ولم تعد السياسة حرفة للخاصة دون تطفل العامة كما كان الأمر قديما، لذا انخرط كل من هب ودب ليدلي بدلوه في الشأن السياسي بتلقائية تتناغم مع مقولة ارسطو (الإنسان حيوان سياسي بطبعه)، وهذا الانخراط غير المسئول جعل بعض الناس يحشرون منطق (ارسطو) ومقولة (مكيافيلي) ومبدأ (تشرشل) حشرا في قوائم تعاملاتهم الاجتماعية اليومية، حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها، ما أثر- سلبا- بشكل كبير على منظومة القيم الإنسانية. حين تهيمن هذه المصطلحات السياسية- القائمة على (المصالح) والأنانية- على التعاملات الاجتماعية ستكون قاسية وعنيفة وهدامة للقيم، وعندما يتم استحسان تداولها والتكيف معها اجتماعيا، سيؤدي ذلك إلى سيادة المنطق المادي النفعي البعيد عن المنطق الأخلاقي بين الناس، وهذا بدوره يؤدي الى اضمحلال بعض القيم الاجتماعية السامية التي ندافع عنها كأبجديات التسامح والإيثار ومبادئ التكافل، وسيمحى من الذاكرة المقولة الشهيرة (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) التي قالها (أفلاطون الأدب العربي) المفكر أحمد لطفي السيد قبل أكثر من خمسين عاما، وعندها سيستشعر الناس المعنى القاسي لمقولة الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (إن الطغيان الاجتماعي أشد عنفا من الطغيان السياسي). هناك علاقات وثيقة بين الواقع الاجتماعي والأحداث السياسية، لذا يرجع علماء السياسة إلى علم الاجتماع السياسي؛ من أجل دراسة الظواهر السياسية ضمن أبعادها وأصولها الاجتماعية، وربما أن العكس صحيح كذلك، وبينة ذلك ما أسلفته عن التأثيرات السلبية لمنطق (ارسطو) ومقولة (ميكافيلي) ومبدأ تشرشل على العلاقات الاجتماعية، لذا أدعو هنا إلى استشعار هذا الخطر المحدق بالمجتمعات الفاضلة، كما أدعو إلى العمل على تفاديه والتحرر منه، وذلك بصياغة واقع يأخذنا بعيدا عن استخدام تلك المصطلحات النفعية في تعاملاتنا اليومية، ويقربنا إلى استخدام المصطلحات النافعة الجيدة، وذلك بواسطة إعلاء شأن القيم الفاضلة ونشر أبجديات التسامح والإيثار ومبادئ التكافل في جميع التعاملات الإنسانية، فما لم نوجد بيئة إنسانية كريمة متسامحة؛ ستبقى الفضيلة عرضة للمفاهيم النفعية بلا حراسة أو حماية.