يظل أكبر التحديات في عصر المادية والعولمة اليوم والتصارع الديني تحقيق مبدأ التسامح، وفي المقابل يظل مما هو مؤصل أن ديننا في كل نواحيه دين التسامح والمسامحة، ولو دققنا النظر لوجدنا أن بين المصطلحين فرقا ودلالة وبعدا فكريا ودينيا وفلسفيا وميدانا مختلفا في الفهم والتطبيق، فاصطلاح مفكري الإسلام إذا أطلق مصطلح المسامحة فهو يطلق على بذل ما لا يجب تفضلا، أما الثاني فهو في معنى التَّسامح مع متعلق بالموقف من الآخر في المعاملات المختلفة، وهنا نميّز بين أمرين مهمين: أولا: التفريق بين الواقع الإسلامي الذي عرفه تاريخ المسلمين وممارساتهم الواقعية ومشاكلهم وتعقيداتهم من جهة، والدين الإسلامي بما هو إيمان قائم في القلوب وفكرة توجه النظر والسلوك. ثانيا: التفريق بين الجانب الأخلاقي للمسألة الذي سنصطلح عليه بمفهوم «السماحة» والجانب السياسي لها، والذي نصطلح عليه بمفهوم «التسامح» دون استبعاد العلاقة المتينة بينهما، ففكرة التسامح من المصطلحات المتداولة في كتب الأديان وآراء الفلاسفة كونها من المسائل المستجدة في الفكر السياسي الحديث، ظهرت كحل ضروري ضد هيمنة الكنيسة ورجال الدين في أوروبا، وظهرت ضد استعمالها الدين للتحكم في رقاب الناس، وهي دعوة تنويرية لتحرير الإنسان من كل أشكال الاستغلال السياسي والديني باعتبار أنه لا أحد يحق له الاستئثار بالحق ونفي الحق عن الآخرين، فالأمر الوحيد الذي يجب على الجميع الاتفاق عليه هو انتماؤهم للوطن وعدم خيانته واحترام القانون الذي يتفقون عليه، وفي هذا السياق عبّر الفلاسفة ومنهم فولتير وسبينوزا وكانط وغيرهم عن «فكرة التسامح» تعبيرا رائعا، وتم التأكيد عندهم على الحرية السياسية والدينية كون الدين في عمقه العملي سياسة أيضا، ومن يطلع على «رسالة التسامح» للفيلسوف جون لوك يدرك الكثير من ذلك، وربما نظرة خاطفة مثلا لقصة ارتداد ملك الغساسنة «جبلة بن الأيهم» في زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وموقفه مع البدوي الذي شج أنفه بعد ما داس طرف ثوبه بالطواف، والتي لم يحكم الفاروق بقتله، ذلك الموقف الذي لم يفهمه «جبلة» فيه معنى كبير في الإسلام وهو العدالة والمساواة، وفر من المدينة هارباً مرتداً، ولم يبالِ عمر ولا الصحابة معه به، كون ارتداده عن الإسلام أهونُ بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه، وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ. فهل يعد هذا تسامحا من الفاروق أم تهاونا في تطبيق العدل والشريعة؟ وتأصيل هذه الفكرة بالقرآن والسنة كثير، ولكن الاشتغال عليها قليل كما قال الله سبحانه: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، وقوله تعالى: «لكم دينكم ولي دين»، فهذه الآيات البينات خضعت لتأويلات عديدة لدعم آيات السيف وأحاديث السيف، الأمر الذي جعل العديد من الناس يعتقدون أن الإسلام دين قام بالسيف، كما في شعار داعش اليوم والجماعات المتشددة، وفي المقابل قتل المرتد بالعموم مثلا ربما يعتبر مخالفا لفكرة التسامح لذا اختلف العلماء فيه كما في قصة جبلة بن الأيهم، لذا فإيماننا بأن ديننا دين التسامح والمسامحة ظاهر، لكن تطبيق ومزاولة هذا التسامح على الأرض ربما غاب عند أولئك الذين فهموا الدين على أنه نصوص عامة يجب تطبيقها على ظاهرها ونسوا أن الدين في جوهره مقاصد وأخلاق وسلوك ومراعاة للمصالح وفقه للنصوص، فكم هي الصورة المشوهة اليوم عن الإسلام بسبب سلوك أتباعه وسوء فقههم ومنهجهم الضيق، ولو أردنا أن نضع مسارات لفكرة التسامح بمفهومها العام فسنجدها تتركز على الآتي: أولا: إعادة النظر في أصل المشكلة وحقيقتها، فمشكلتنا الكبرى التي تفرّق بين المسلمين اليوم مشكلة عقدية مقترنة بالتعصب والانغلاق، فالقرآن الكريم لم يناد بمصطلح عقيدة ولم يستعمل الكلمة، ولكن المسلمين الذين أسسوا العقائد أوقعوا أنفسهم وغيرهم في حروب لم تتوقف إلى الآن، وأن الإيمان والكفر هما المصطلحان اللذان أوقفنا القرآن والسنة عليهما، لكون مصطلح الإيمان يقتضي شرط العلم والتعقل. ثانيا: أن مفهوم التسامح ينطلق من أصل الفطرة الإنسانية والحق الطبيعي الذي له، وهو المعنى نفسه الذي صاغه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والحقيقة أن أي دين ينشر ويربي الأتباع على الطغيان والتكفير واللعن وإشاعة الكراهية ليس بدين للتسامح، والذي أصبح معضلة في عصر المادة وانتفاخ الأنا والتعصب.