في الماضي كان الشأن السياسي محصوراً على نخبة من اصحاب الريادة في الفكر السياسي كقادة الفكر والرأي، بينما اليوم، وبفعل وسائل الاعلام وانتشار وسائل التواصل (الكمبيوترية) انخرط كلّ من هبَ ودبَ في هذا الشأن ليدلي بدلوه بتلقائية تتناغم مع مقولة (ارسطو) من ان الإنسان حيوان سياسي بطبعه، ولكن هذا الانخراط الكثيف و(البليد) في الشأن السياسي دون وعي أثر -سلباً- بشكل كبير على منظومة القيم الانسانية؛ وذلك نتيجة لإدخال بعض المصطلحات السياسية ذات الطابع الواقعي النفعي الميكيافيلي -نسبة الى المفكر الإيطالي نقولا مكيافيللي مؤسس علم السياسة الحديث- إلى قوائم تعاملاتنا الاجتماعية اليومية، حتى أحاطت بنا كإحاطة السوار بالمعصم، وبمعنى آخر أن المصطلحات السياسية القائمة على (المصالح) والأنانية تؤثر سلباً على العلاقات الإنسانية إذا ما تم استحسان تداولها في الشأن الاجتماعي، وهذه المصطلحات ستكون عنيفة وطاغية، أو كما قال جون ستيوارت ميل: (إن الطغيان الاجتماعي أشد عنفًا من الطغيان السياسي)، ومن هنا تنبع خطورة هذا التوجه (المنحرف)، والامثلة على ذلك لا حصر لها، وحيِّز هذا المقال لا يتسع لتقديمها، ولكن من اوضحها حشر منطق العلاقات الدولية في تعاملاتنا الاجتماعية اليومية، وأعني أن المنطق القائم على (المصالح)، الذي يقول: (لا عداوات ولا صداقات دائمة في العلاقات الدولية.. بل هناك دوما مصالح دائمة)، قد كيّفه البعض وحشروه في علاقاتهم الاجتماعية، كما تكيفوا مع المنطق الميكيافيلي الذي يقول: (الغاية تبرر الوسيلة) واصبح جزءا لا يتجزء من تعاملاتهم اليومية، لذا انتشر بين الناس المنطق المادي النفعي البعيد عن المنطق الاخلاقي، ما ادى الى اضمحلال بعض القيم الاجتماعية التي ندافع عنها كأبجديات التسامح والإيثار ومبادئ التكافل وأدبيات الاعتذار، وليس هذا فحسب.. بل طغت الرؤية الأيديلوجية -صاحبة الحكم المسبق- على المشهد.. او لنقل طغى ما يسمى (الأيديولوجيا الجزئية) التي تعني كلّ موقف واع يتخذه البعض لإخفاء الحقيقة إن كان الإقرار بها يتناقض مع مصالحهم وتصوراتهم أو ايديولوجياتهم الخاصة، وقد تكون (التقية) مطية للبعض في قراءة الأحداث الرهنة قراءة (طائفية لواقع سياسي)، أو يكون (النفاق) مطية للبعض الآخر في قراءة المشهد قراءة (سياسية لواقع طائفي)، وبهذا نسي الجميع المنطق الإنساني الأخلاقي في تعاملاتهم. هناك علاقات وثيقة بين الواقع الاجتماعي والأحداث السياسية؛ لذا يرجع علماء السياسة الى علم الاجتماع السياسي؛ من أجل دراسة الظواهر السياسية ضمن أبعادها وأصولها الاجتماعية، وبما أن العكس ممكن؛ فإن الأزمات السياسية تنتج -هي الأخرى- سيولة في الأفكار قد تفضي إلى تحولات اجتماعية غير مرغوبة، أي ان الظواهر السياسية تؤثر -هي الأخرى- على العلاقات الانسانية، وبيّنة ذلك ما اسلفت من تأثيرات سلبية للمنطق (الميكيافيلي) ومنطق (المصالح) إذا حشرا في العلاقات الإنسانية. كثير من الناس منقادون الى هذه التيارات المنحدرة التي دمّرت العلاقات الإنسانية، ومن المهم أن ندرك بوضوح ونعي أننا -اليوم- في حاجة إلى تغير نوعي في رؤية الإنسان لنفسه؛ ليفلت من قبضة هذا الانحدار الإنساني المشين الذي يحاول أن يحدَّد مسار قيمنا وعلاقاتنا واتجاهاتنا المستقبلية، ولن يتم ذلك إلا إذا شمرنا السواعد وقمنا بإعلاء شأن القيم الفاضلة وساهمنا في نشر أبجديات التسامح والإيثار ومبادئ التكافل وأدبيات الاعتذار في جميع التعاملات الإنسانية، لذا أدعو إلى استشعار هذا الخطر المحدق بمجتمعاتنا والعمل على تفاديه والتحرر منه، وذلك بصياغة واقع يأخذنا بعيداً عن استخدام تلك المصطلحات الهدامة في تعاملاتنا اليومية، ويقربنا كثيراً من استخدام المصطلحات النافعة الجيدة لنجني الأرقى والأجمل والأكمل والأنبل من الأخلاق، وما لم نخلق بيئة إنسانية كريمة ستبقى الفضيلة بلا حراسة أو حماية. مدير مراكز «اسكب» للاستشارات الأمنية والعلاقات العامة