حيث إن موضوع هذا المقال ذو طابع شرعي فقهي، فإني سأتناوله منقسمًا لقسمين أولهما -وهو هذا المقال الحالي- التأصيل الشرعي للموضوع والذي أتناوله بموجب تخصصي الشرعي النظري، وأما القسم الثاني –وهو المقال القادم بإذن الله- فسينصبّ على الواقع العملي لهذا الأمر والذي أتناوله من خلال ممارستي العملية للمحاماة وتجربتي فيها كمحامٍ ومستشار قانوني، ومعرفة الحال والواقع لا بد منه لاكتمال الفهم وسداد الرأي. فمن المتفق عليه بين فقهاء الشريعة الإسلامية أن مطل الغني ظلم وإثم وعدوان بل جعله الجمهور كبيرة من الكبائر، وذلك لما ورد من قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث (مطل الغني ظلم) والحديث الآخر (ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته). وقد أقر الفقهاء جواز فرض العقوبات التعزيرية من ضرب أو حبس ونحو ذلك على مطل الغني بناءً على تلك الأحاديث وأمثالها. لكن فيما يتعلق بفرض الغرامة المالية كعقوبة على هذا المماطل الموسر، فقد اختلف الفقهاء المعاصرون فيها على ثلاثة آراء: الرأي الأول: عدم جواز فرض هذه الغرامة مطلقا؛ لكونه من الربا المنهي عنه. الرأي الثاني: جواز فرض هذه الغرامة مع عدم جواز إعطاءها للدائن، بل تُصرف للفقراء والجهات الخيرية. الرأي الثالث: جواز فرض هذه الغرامة وعدم وجود الحرج في أن يمتلكها الدائن ويستفيد منها. ولضيق المجال في هذا المقال فسأقتصر على ذكر بعض ما استند عليه المجيزون للغرامة المالية على المماطل وأنها تكون له، حيث استدلوا بحديث الممتنع عن أداء الزكاة (فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) وكذلك حديث (لا ضرر ولا ضرار) وكذلك أن المماطل ظالم وفق حديث (مطل الغني ظلم) فيكون حاله كحال الغصب التي قرر الفقهاء فيها تضمين الغاصب منافع الأعيان المغصوبة علاوة على رد الأصل، وأوضحُ من ذلك ما ورد في الأحاديث المرفوعة في تغريم السارق غرم ما سرقه مرتين للمسروق له مما لا تتوفر فيه شروط القطع كعقوبة مالية عليه حيث ورد في السنة أن الذي يسرق من الثمر المعلق قبل أن يحوطه مالكه يكون عليه جلد مع تغريمه لقيمته مرتين (أي يدفع قيمته مضاعفة) وكذلك ما ورد في السارق للشاه قبل أن تؤوي إلى المراح يكون عليه جلد مع الغرم مرتين، وكذلك قضاء عمر في الناقة التي أخذها مماليكٌ جياع فأكلوها حيث ضاعف قيمة الناقة لصاحبها من سيد هؤلاء المماليك (صاحب الناقة أخذ ضعف قيمتها) وغيرها من الآثار والاستدلالات التي يقصر المقام عن ذكرها. وأما القول بأن الغرامة المالية للدين المماطَلِ به تُشابه الفائدة الربوية فالجواب على ذلك أنها تفترق عنها بعدة فروق منها: 1- ان الزيادة الربوية تكون في مقابل تمديد أجل السداد بتراضي الطرفين، أما الغرامة المالية فهي في مقابلة ظلم المدين بامتناعه عن السداد ومماطلته للدائن وذلك بحكم قضائي. 2- ان الزيادة الربوية تكون مثبتة من البداية في حين أن الغرامة المالية محتملة، حيث إن المدين إن لم يتأخر فلن يغرم شيئًا. 3- ان الزيادة الربوية تلزم المدين مطلقًا سواء كان معسرًا أو موسرًا، أما الغرامة المالية فلا تلزم إلاّ عند المماطلة عن يسر وثبوت ذلك بحكم قضائي. 4- كما لا يجوز إيقاع الغرامة المالية على المعسر فكذلك لا يجوز على من بذل لدائنه ضمانًا ماليًا كالرهن ونحوه. وفيما يتعلق بتحديد مقدار التعويض المالي عن المماطلة فيكون مرده للجهات القضائية المختصة التي قد تتصدى له أو تُحيله لذوي الخبرة الموثوقين في تقديره سواءً أكانوا أفرادًا أو مؤسسات متخصصة، وذلك من خلال اعتبارات عدة لقياس مقدار التعويض ليس هنا مجال الاستفاضة فيها. ويجدر بي هنا أن أنقل كلام الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ عبدالله بن منيع وآخرين في ندوة البركة الثالثة للاقتصاد الإسلامي حيث قالوا: إنه يجوز شرعًا إلزام المدين المماطل في الأداء وهو قادر على الوفاء بتعويض الدائن عن ضرره الناشئ عن تأخر المدين في الوفاء دون عذر مشروع؛ لأن مثل هذا المدين ظالم، حيث قال فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «مطل الغني ظلم» فيكون حاله كحال الغصب التي قرر الفقهاء فيها تضمين الغاصب منافع الأعيان المغصوبة علاوة على رد الأصل.. ثم قالوا: يقدّر هذا التعويض بمقدار ما فات على الدائن من ربح معتاد كان يمكن أن يُنتجه مبلغ دينه لو استُثمر بالطرق المشروعة خلال مدة التأخير والمماطلة.. ثم قرروا بأن المحكمة هي التي تقدر التعويض بمعرفة أهل الخبرة تبعًا لطرق الاستثمار المقبولة في الشريعة الإسلامية.. كما أكدوا أنه لا يجوز الاتفاق بين الدائن والمدين مسبقًا على تقدير هذا التعويض؛ لكي لا يُتخذ ذلك ذريعة بينهما إلى المراباة والفوائد الربوية. وخلاصة القول إن هؤلاء المجيزين قد جعلوا مبدأ تعويض الدائن عن ضرره نتيجة لتأخر المدين عن وفاء الدين في موعده مبدأ فقهيًا مقبولًا، ولا يوجد في نصوص الشريعة وأصولها ومقاصدها العامة ما يتنافى معه، بل بالعكس يوجد ما يؤيده ويوجبه، واستحقاق هذا التعويض على المدين مشروط بألا يكون له معذرة شرعية في هذا التأخير، بل يكون مليئًا مماطلًا يستحق الوصف بأنه ظالم كالغاصب. وبالتأمل فيما سبق سرده فإن النتيجة المستخرجة منه تتلخص في عدة نقاط، نجملها فيما يلي: 1- ان تأخير الدين مطلًا يلحق ضررًا بالدائن بحرمانه من منافع ماله مدة التأخير، ويعد ظلمًا مما يوجب مسؤولية المدين عنه. 2- ان تأخير أداء الدين عن موعده بلا عذر شرعي أكلٌ لمنفعة المال بلا إذن صاحبه مدة التأخير، مما يوجب مسؤولية الآكل. 3- ان معاقبة القضاء للمدين المماطل بالحبس أو الجلد لا تزيل الضرر الذي لحق بالدائن، ولذلك يبقى له الحق في التعويض المالي وفقا لقاعدة (الضرر يزال). 4- ان المدين المماطل إذا لم يُلزم شرعا بالتعويض المالي فإن ذلك يؤدي إلى المساواة في النتيجة بينه وبين المدين العادل المؤدي لدينه في وقته المتفق عليه، فكيف يستوي الظالم والعادل؟ ولا يقال: إن المماطل ينال عقابه يوم القيامة كما أن الثواب يناله العادل؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية لم تكتف بالجزاء الأخروي في حقوق العباد، بل جعلت لها حماية وضمانات مثلما فعلت مع الغاصب والسارق.