﴿ارجعي إلى ربك راضية مرضية﴾ مُسلَّمةٌ لا يُماري فيها أحد، وحقيقة قرَّرها الواحد الأحد ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾. ربَّاه هو أمرك فمن رضي فله الرضا ولا نقول إلا ما يرضيك عنا (إنا لله وإنا إليه راجعون)، (اللُّهم اجبرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا). يوم الرحيل يحل بقدر الله فتتقلب موازين قلبك وعقلك، تتقلب الأحوال والمشاعر والأفكار والأفعال والأقوال، هو اختبار الدنيا لقوة العقيدة وقوة اليقين وقوة القيم ﴿كل من عليها فان﴾. في شهر رمضان عام 1438ه، المسلمون يتسابقون في العشر الأواخر وفقيدنا تسارع للأخرى. ليلة الثالث والعشرين كان للدنيا انفطار. أعقبه الذهول لا أحد يريد أن يصدق أو يسمع اسم الفقيد، فالكل يتوارى عن الكل لعله يكون مخطئًا من هول الفقد وليس السخط، من صدق المحبة وصعق الخبر فالأمل باللقاء كان أقرب. أنَّى لي بتلك الخُطى ترنو بالفضاء وقت السَّحر.. يعلو صوتها العذب الشجي حامدًا مهللًا مكبرًا حانيًا باسم الثَغر.. نعم رحل أبي وأيُّ رحيل كان يا أبتِ.. أمر الله ماضٍ وسيمضي في كل حي.. أُغالِب دمعي بالدعاء وأرفع للسماء ابتهالاتي.. وصلاةٌ لربي تخفف لهيب أشواقي.. سأمضي يا أبتِ بعونِ ربي ودعوة أمي.. أسنُد الحلم بذكراك ما بقيت أيام عمري.. هنا سأنثر بوحاً للعقول المتأملة، لا عن الألم الذي يعتصر القلب والروح ولا عن الذكرى والحنين الذي يكبر مع تقادم الأيام، فالقلوب موجوعة للأبد، بذكريات من فقدت ولو كانت الدموع تُعيد أُنسًا لما فتئت الأعين عن الدمع، لكن صبرٌ وتَصَبُّر. فقد سطر فقيدنا في حياته ورحيله ميثاقًا كبيرًا تعجز الكلمات عن احتوائه. فعذرًا يا أبتاه فأنا في هواك أخالف الإعرابا*. *رسل راكان. أبي سأكتب فخرًا بك، سأدون قبسات تربوية من إرثك الذي تجاوزنا لكثير من الأحياء في كل الأرجاء. سأبوح عن منطوق تلك البسمات، لعلها تلامس عقلًا أو قلبًا فيتفكر. فما الحياة إلا رحلة. ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامها وأدخلته على ربه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له. ■حين يحزن عليه ومعه قلب البسيط والبعيد والصغير، ويتمتم الأعجمي بأمنيات الخير والشفاء، ويحزن ويتفطر قلبه لرحيله ويبتهل في عزلته إلى ربه في مصلاه بخفاء يوازي حزنه الحبيب والقريب والصديق. فاعلموا أن باعثه نقاء الروح وصفاء السريرة، وحسن السمت وسخاء الخُلق وطيب القلب. تملَّكهُم ذلك بالوفاء، فالمحبة الصادقة لا تُشترى بأثمان الدنيا (أنتم شهداء الله في أرضه). فَالذكر الحسن لِلإِنْسَانِ عُمر ثَانٍ وفضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ■حين تُحَل الكثير من العقد، وتُحتَوى لديه الإشكالات وتُنتهي عنده المشكلات ويُعالج الأمر بعظيم حكمته وحرصه وصدق نصحه، له بُعد نظر فيوازن بين جوانب الأمور والمصلحة النافعة قبل المشورة، وفوق هذا لا يَعلَم عنها وبها إلا أصحابها. فاعلموا حينها أن الرب سبحانه وفقه وسدده. فهو حكمة تمشي على الأرض فالثقة والإخلاص وسمو الخلق بلغت مبلغًا عظيمًا عنده كالجبال الراسيات في نفوس من قصدوه. ■حين يتفاني لأجل اليتيم ويتسابق إليهم مقبلًا بالخير والحب والرغبة بلا ملل ولا كلل، فيعيش من يرعاه آمنًا بإحساس الفخر والقوة. فاعلموا أن الرب سبحانه قد سخره رحمة مهداة وقلبًا حانيًا وروحًا تُجزل بأجود العطاء. كان يقلقه شأن يومهم ويخطط لمستقبلهم بما يستطيع، لا يرجو إلا ثواب ربه ومجاورة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام. ■حين يمسك غضبه ويرسم بسمته في مواقف الاختلاف، ويزعجه علو الصوت وينهى عن اللَّجج وشدة الخصام. فيصنع الدعابة ليُمازح الأنفس ويلطف الأجواء ويمتص الغضب بذكاء. يردد الحكايات المبهجة وينصرف. لتهدأ النفوس وتأخذ مداها من الوقت، ثم تجده يعود لها بالحكمة في وقت أدعى للقبول فيعرض القصة والخبرة ويرمي بالعبرة، وإياك أعني واسمعي يا جارة. فاعلموا حينها أن أبلغ معنى في اللُّطافة والحياء هو أبي، يُحب حوار اللُّب لا القشور، يُقدر العقول ويحترم الآراء، يَستثقِل الإسراع في قراءة النيات، أو الإسراف في الأمور التي تُورِث الضغينة وتُسقط الهيبة أو تشجع الهازلين في مجالسه الخاصة والعامة، تجده يستمتع بمجاراة المتحدث ويتمثل بأدب الحوار والحديث. ويدير برجاحة عقله ميزان المجالس ليدوم وِدادُها ويستقيم حالها. ■حين تتجلى سعادته في مساعدة الآخرين، فلا يتجاهل أي مدخل لما يسعدهم حتى في البسمة والكلمة الطيبة. كريم في إظهار الشعور الإنساني بلا تَجزئة، كل من سمع عنه يقدره ويحبه، تجده حاضرًا ومبادرًا بما يسندُ النفوس في مواقف الفرح أو مواقف الحزن للقريب والبعيد والصغير والكبير. فاعلموا أن منظُورَه للحياة مختلف، وكمال الوعي لديه تجاوز مستوى القياس، فأصبح قنديلًا للبشاشة وللحنان وللرحمة أينما حل تسعد به الأنفس وتبتهج. ■حين يمازج في عمله فتراه تربويًا حانيًا وسياسيًا محنكًا. محتسبًا بالجهد والمشورة لرفاقه. نعم يا رواد التعليم، لقد كان أبي صديقًا للجميع ومحك الاقتراب والابتعاد، مرنًا مطواعًا لديه حسب الصواب والخطأ، فلا استئثار برأي ولا تسلط بقرار وعامل الخبرة عنده خيار متاح للمواقف والأحداث بلا إفراط ولا تفريط. يزعجه تدنُّس الأفكار والعقول وغياب الضمير في الدين والتربية. تجده قليل الكلام غزيرَ الأفعال، يبذل هنا ويُوجه هناك ويتغاضى تارة ويشُد تارة ليرتقي الجميع معًا. فاعلموا أن القيادة عنده تأثير، والأجيال هم رأس الهرم بالاهتمام، والعمل عنده ما قام وكان. ■حين يحرص على التآلف ويتبنى صلة الأرحام ويعلن المحبة للجميع، يبذل ليدوم الوصل ويسعد الصغير قبل الكبير، يتفقد الغائب ويمتن للحاضر، يمازح الداخل والخارج. يغمر أهل بيته بالإحسان والثناء. غاياته جميلة فلا ترى عيناه إلا الجميل الحسَن، ولا ينطق لسانه إلا بالخير وحُسن الظن. فاعلموا أن نفسه قد علت بهمتها تبتغي رضا ربها؛ لذا يأنس بطاعته وقربه ويحرص على خيرية وصلاح الأبناء. فتعهد نفوسهم وعقولهم بالرعاية وكريم السُقيا من العلم والثقافة والاهتمام والتشجيع والتحفيز والإلهام فلم يجعل لطموحهم حدًا. ■حين يستمر عطاؤه الروحي في آخر أيامه صابرًا محتسبًا، لم يشتكِ الألم ولم يبث الحزن، نزل به سريعًا ولم يمهل الوقت محبيه ليستوعبوا مرضه، ومع ذلك ظلَّ حامدًا شاكرًا مرددًا (عند الله خير) متماسكًا ببقايا قوته متيقّنًا برحمة خالقه يتوارى بنفسه إذا غلبه الأمرُ وأنهكه؛ رحمة وحبًا وعطفًا على أحبابه من حوله، يخشى حزنهم ودمعاتهم وجرح قلوبهم - تجده يبادر بالسؤال عن حالهم قبل أن يسألوه، وهو في أشد الكرب والحال ويتكلف ديمومة البسمة على محياه ليُشعرهم بالأمان. - لقد ودعنا فردًا فردًا بطريقته الفريدة الحانية، والتي لم ندركها إلا ساعة رحيله، - فيا إلهي أي إنسان كان أبي!!- وتذكروا أن الله قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فمن ابتُلي بمرض ثم وفقه الله للصبر كان له خيرًا وزاده ترقيًا في الدرجات. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. ولو علم أهل العافية يوم القيامة ما لأهل البلاء من الثواب لهدأت نفوسهم ولصبروا واحتسبوا يقينًا ورضًا وتسليمًا. ■لأحبتي المتأملين بالمعاني، حفظكم الله ورعاكم ولا أراكم مكروهًا في أحبابكم، إن الذكرى ستأتي مُؤرقة في كل حين لمن فقدناهم، فلنجعل الجواب في سجود في دعاء في حمد وشكر في مسعى بر وخير نحو الآخرة ﴿ فاذكروني أذكركم﴾. ولتعلموا أن الشبكات الاجتماعية سحبت جَّم مشاعرنا وخصوصية مناجاتنا -فتويتر ليس سجادة صلاة!- والإغراق في هذه الشبكات ربما يُؤطر التفكير ويلهينا عن الأفعال الحقيقية، فالتوازن بها مطلوب والتذكير فيها محمود. فانصرفوا للحياة، واطرقوا أبواب الخير وتعاهدوا طهر قلوبكم وصلاح نياتكم وبركة طاعاتكم فإنها إذا صلُحت طابت لكم الحياة. ■رحم الله من كان للعين والقلب والعقل ارتواء، رحم الله أبي هو للكون ضياء. قد أرهق الفقد براءة الطفولة، فحفيدتك «منيرة» ذات الثلاث سنوات تهتِف يوم العيد بكل الوجوه العابرة وترقب بعينيها الحائرة (بابا عبدالله)!. وهأنا أغالب قلمي فالبوح عنك يا أبي حياة. اللهم اغفر لأبي، (عبدالله بن محمد بن عبدالله الحقباني) وأكرِم وفادته عليك، واجعل الفردوس الأعلى من الجنة مثواه منعمًا مكرمًا، واجمعنا به بالنعيم الخالد في مستقر رحمتك على سرر متقابلين. .. دمتم بحفظ المولى..